فهيد البصيري

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

أي: الضرب في الميت حرام.

هذا هو حال العالم العربي اليوم.. ينظر إلى ما يحدث في غزة شارد الذهن كأنه فاقد الإحساس والإرادة!

وقد أحرج رئيس الوزراء التركي الأنظمة العربية عندما هاجم الإسرائيليين ووبخهم.. وعلى أقل تقدير فقد فعل شيئا، وزاد الرئيس الفنزويلي عليه، فطرد السفير الإسرائيلي، وردت إسرائيل بالمثل وطردت السفير الفنزويلي. وعلى العموم سوف تعود المياه إلي مجاريها وتعود العلاقة بينهما، ولكن ما حدث هو تعبير واضح عن رفض ما يحدث من انتهاك للطفولة والإنسانية في غزة، وليس دفاعا عن حماس.

مرت الأمة العربية بمراحل كثيرة، فمن مرحلة الاستعمار، إلى مرحلة الانقلابات الثورية في الستينيات، مرورا بمرحلة النكسة بعد العام 1967 إلى مرحلة السلام على استحياء في نهاية السبعينيات، إلى مرحلة السلام الصريح مع بداية القرن الحالي، وصولا إلى مرحلة الهوان الذي نعيشه اليوم.

وهي مرحلة كفرت فيها الدول العربية وشعوبها بجميع المبادئ والقيم والأفكار السابقة من قومية واشتراكية وإسلامية وربما إنسانية معتقدة أنها لم تعد تصلح للاستخدام الآدمي.

وزاد الطين بلة، أن بعض الدول العربية، وخصوصا من يرتبط بمعاهدات مع إسرائيل، يعتقد أن الوضع هذه المرة هو نسخة طبق الأصل عما حدث في حرب العام 2006 مع laquo;حزب اللهraquo;، ولكن الواقع يقول عكس ذلك، فغزة ليست لبنان وlaquo;حماسraquo; ليست laquo;حزب اللهraquo;، واللاعبون الرئيسيون في الحرب السابقة، من مثل إيران وسورية ليس لهم وجود على أرض الواقع اليوم.، والحديث عن شماعة المد الشيعي، لا تتناسب مع فكر laquo;حماسraquo; السني، وlaquo;حماسraquo; جاء بها الفلسطينيون عبر الانتخابات بعدما أصبحت فتح ورقة محروقة بالنسبة إليهم.

ولو أن الأنظمة العربية فكرت للحظة، لأدركت أن الحرب على حماس وأهل غزة لن تخدمها إطلاقا، بل على العكس ستكون نتائجها وخيمة، فالفكر الذي تنتهجه حماس، هو أكثر اعتدالا من فكر بعض الفصائل الفلسطينية الأخرى كالجهاد، ومحاربتها هو دفع لباقي الفصائل إلى اتخاذ مواقف أكثر تطرفا، وستؤدي هذه الحرب إلى تعبئة الشعوب العربية المتدينة بالفطرة خلف نهج حماس، وإلى إعادة ترتيب هذه الشعوب لمواقفها من فهم عملية السلام، وهو الأمر الذي سيصعّب الأمر على الأنظمة التي لن تستطيع أن تكون مقنعة في شرح جدوى السلام، الذي لن يعني للشعوب العربية بعد هذه الحرب، سوى مزيد من المكاسب للإسرائيليين ومزيد من المجازر للعرب على اختلاف مللهم.

ترك بعض الدول العربية الحرية للإسرائيليين للتفكير في الحل نيابة عنه، من دون أن يدرك أن الإسرائيليين لن يخدموا سوى مصالحهم، وهم أنفسهم منقسمون حول أهداف هذه الحرب وطولها، وعلى الرغم من عدم وضوح الأهداف الإسرائيلية، إلا إننا لا نعتقد أن من ضمن تلك الأهداف، القضاء على حماس، والسبب بسيط وهو أن حماس ليست دولة لكي تهزم بمقاييس الدول، بل هي حزب ينطلق من فكر يؤمن به المواطن العربي العادي، وهو يعطيها اليوم زخما كبيرا من التعاطف لم تتوقعه الدول العربية نفسها.

والفكر لا يهزم بالسلاح، بل بالفكر، وحماس ستخرج منتصرة، فالفكر أو الدين لا يمكن اغتياله، فهو متجدد وموجود في أذهان البشر، وأفغانستان خير شاهد على عجز الآلة العسكرية، أمام الفكر والعقيدة. وبما أن فكرة الهزيمة غير قابلة للتطبيق، إذاً ستخرج حماس في النهاية أكثر إصرارا وعنادا وعدوانية، ليس مع السلطة الفلسطينية في الضفة، بل مع بعض الدول العربية المحيطة والبعيدة.

ولعل الهدف الأكثر منطقية لهذه الحرب، هو شق الصف الفلسطيني إلى الأبد، الأمر الذي سيكفل ديمومة الصراع الفلسطيني- الفلسطيني. لتصبح إسرائيل في نظر laquo;الإخوة الأعداءraquo; أرحم، ما سيسهل السيطرة عليهم وتذويبهم في الكيان الصهيوني في النهاية، أو طردهم إلى خارج هذا الكيان.

ستعمل هذه الحرب على تكريس حالة الفرقة والتشرذم بين الدول العربية التي ستعيد ترتيب أولويتها بناء على مصالحها الذاتية فقط بعدما رأت بأم أعينها أنها عاجزة تماما عن الاتفاق على الأمور البديهية،

وهذا هدف إسرائيلي سام وبعيد..

إن الحرب على غزة هو دفع للتطرف على حساب الاعتدال، وهو توريط للأنظمة العربية التي لم تحسن التعامل مع الحدث، ولم تفهم أبعاده السياسية والنفسانية.

سوف تتوقف إسرائيل عند حدود مدينة غزة بعد أن ترتكب مجازر عدة على شاكلة laquo;مذبحة دير ياسينraquo; وlaquo;صبرا شاتيلاraquo; وlaquo;بلدة الشيخraquo;. فالهدف القريب الذي يمكن تحقيقه في هذه الحرب هو التنكيل والترويع بمعنى تيئيس الفلسطينيين والعرب من جدوى المقاومة بأي شكل من الأشكال.

وعلى الرغم من ذلك كله ستبقى حماس في غزة بعد توقف الغزو الإسرائيلي، وستثأر من كل فلسطيني فيه رائحة فتح وممن تعتقد أنهم تسببوا في مقتل أحد عناصرهم.

ولن يمر الهوان العربي من دون مشكلات خطيرة، فأغلب الدول العربية ستفقد صدقيتها وهيبتها أمام شعوبها، التي اطلعت على حقيقة ضعفها، ما سيتسبب في اتساع الهوة بين الشعوب والأنظمة، وسيسهل ذلك إثارة قلاقل سياسية تحت بند laquo;الإسلام هو الحلraquo;.

إن ما يحدث من هول مستمر على الأرض الفلسطينية، سيصب في مصلحة الفكر المتطرف ضد الاعتدال الذي لم يُحسن استخدامه، وأثبت عدم فاعليته لإشباع حاجة الشعوب العربية للانتصار لقيمها الإنسانية والدينية.

أما إشاعة أن لدى إسرائيل مخططا لإعادة غزة إلى مصر، والضفة الغربية إلى الأردن، فهو رأي بعيد عن الصواب، فإسرائيل ليس من سياستها الرجوع إلى الخلف، ومن سيعود إلى المربع الأول، هو الدول العربية.

والحروب عادة لا تنتهي بانتهائها، فلكل حرب فاتورة تستحق الدفع، وسيدفعها هذه المرة الفلسطينيون ومعهم الدول العربية جميعها على مدى السنوات المقبلة.