حميد المنصوري

مما لاشك فيه أن هناك تفاعلات دولية وغير دولية من وقت لآخر تكشف عن قدرات عسكرية وسياسية وعقائدية فعالة على المستوى الإقليمي والدولي. وفي جغرافية الشرق الأوسط المطاطة في مساحتها هناك الكثير من القضايا والصراعات الواضحة والدفينة كالجمر الذي تغطيه الرمال.

ولكن للشرق الأوسط خاصرة لا يمكن بدونها الحديث عن توازن أو استقرار هي الصراع الفلسطيني والعربي/ الإسرائيلي. فهذا الصراع هو الأخطر والأكثر تعقيداً في الشرق الأوسط الذي لم نعرف له استقراراً أو جغرافية محددة.

وفي هذه الخاصرة مربع فعال لاعتبارات سياسية وعسكرية وعقائدية، وفي تحليلنا لهذه الفعالية نجد المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران وإسرائيل، وهذا المربع الفعال إقليمياً ينطوي دولياً أيضاً على قدرة عالية من الفعالية التي تلعب دوراً في رسم مستقبل الشرق الأوسط واستقراره. فالسعودية ببعدها الاقتصادي والسياسي تقود مشروع السلام الذي يضع انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 وقيام دولة فلسطين أساساً لتطبيع وإقامة علاقات عربية مع إسرائيل. وإذا كانت السعودية تحمل هذا المشروع الذي تناصره دول عربية وغير عربية ومنحها فعالية كبيرة، فإنها أيضاً بثقلها الاقتصادي في موردي النفط والغاز تكسب ثقلًا يزداد خصوصاً في ظل الأزمة العالمية التي أسبغت على دول النفط والغاز أهمية متناهية للاقتصاد العالمي. وليس هذا فحسب، فالسعودية فاعلة عقائدياً لما تحمله من بعد إسلامي يزداد دوره.

أما إيران، فتمثل محوراً مضادًا للسلام مع إسرائيل ويضم سوريا وquot;حزب اللهquot; وquot;حماسquot;. وتعكس إيران بعدها في النفوذ العقائدي عبر المذهبية الشيعية في الشرق الأوسط والخليج خاصة. وإيران مرتكز قوي لدول في صراع واختلاف سياسي مع واشنطن والغرب، وأصبحت تمثِّل في الشرق الأوسط والخليج ورقة روسية وصينية مهمة جداًّ، وذلك ما جعل السلام في الشرق الأوسط يعكس صراعاً بين دول إقليمية ودولية.

وإذا كنا نرى في الفعاليتين السعودية، والإيرانية، التضاد التام من خلال الأهداف والسبل والمصالح، فإننا نجد لإيران صورة أعقد بكثير، فإذا كانت تمثل للبعض التضاد بين محور السلام والصراع مع إسرائيل على المستوى الإقليمي وفي كونها ورقة روسية مهمة ضد واشنطن على المستوى الدولي، فإن لها مقابلاً آخر قد ترسمه تركيا. فتركيا، الضلع الثالث في المربع الفعال، فريدةٌ في نظامها السياسي وأهدافها وتحركاتها، ففي النظام السياسي نجد العلمانية الفريدة المستمرة عبر حراسةِ المؤسسة العسكرية للأمن القومي على أساس أعمدة العلمانية. وليس غريباً في أنقرة أن تقوم المؤسسة العسكرية بدور المحافظ على روح العلمانية ووجودها في الساحة التركية الداخلية والخارجية، بل إن الاتحاد الأوروبي الذي يتحجج لعدم دخول تركيا يرجع السبب إلى دور المؤسسة العسكرية الذي يجعل نظام تركيا شبه عسكري، وهناك حجج أخرى كحقوق الإنسان والقضية الكردية، ولكن إذا ضعف دور المؤسسة العسكرية سيتغير وجه تركيا العلماني، ثم ستخرج حجة أخرى في بروز التيار الإسلامي مثلاً. وكما أن تركيا العلمانية باتت لا تخشى كثيراً من عدم دخولها الاتحاد الأوروبي وأصبحت حريصة على فعاليتها في الشرق الأوسط الذي يعطيها دوراً دولياً، حيث إنها تملك قدرة وإرادة في تقديم وجه آخر إسلامي وعلماني وحداثي، وهو ما اتضح في حرب إسرائيل على غزة حيث خرجت تصريحات أردوغان كالنار على إسرائيل مستحضراً فيها التاريخ العثماني. أجل الإرادة التركية تتجاوز العلاقة مع إسرائيل، فتركيا ترتبط بعلاقات قوية سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية مع إسرائيل، كما أن هناك تدريبات إسرائيلية جوية في تركيا. بل إن تركيا في جانب آخر ترتبط مع إيران في منع بروز دولة كردية في المستقبل. وتأتي العلاقات الاقتصادية والتجارية لترسم علاقة أكثر قوة حيث ستكون أنقرة محطة لنقل الغاز الإيراني إلى أوروبا كما أن تركيا غازلت روسيا في الحرب الإسرائيلية على غزة عندما تساءل أردوغان عن تغيب الدول التي وقفت مع جورجيا، ويقصد واشنطن حليف تركيا القديم الذي دعَّم بروز الأكراد في شمال العراق، وهذا يؤكد أن حليف الأمس عدو اليوم وعدو الأمس (موسكو) ربما يكون صديق الغد. ومن المؤكد أن لتركيا أهدافاً ومصالح متضاربة بين الغرب والشرق وبين إسرائيل وإيران والعرب، ولكن من المؤكد أنها تُخرج صوراً من الفعالية من خلال الثقافة التركية الشعبية عندما تتمثلها السياسة الخارجية التي تعرف مصالحها وأهدافها وإن تعددت واختلفت وتقاطعت مع أطراف العلاقة في الشرق الأوسط، لأن تركيا تملك إرادة وسبباً ودافعاً لكل تحرك وتفاعل. وهنا لابد من التنويه بأن تركيا الراعية للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل ستصبح لا محالة حلقة اتصال سرية لأي تقارب بين طهران وتل أبيب لأن لتركيا علاقات متقاطعة بين الطرفين. وليس من المبالغ فيه القول إن تركيا تجيد القراءة الإقليمية والدولية ولعبة المصالح، لذلك فإن لكل تضارب في سياستها مبرراً سياسياً وقانونياً وبراجماتياً أيضاً.

ولا يغني القول بفعالية إسرائيل مجرد كونها خامس دولة عالمية في القوة النووية العسكرية، بل لابد من الإشارة إلى أنها، عبر ولادتها بالبعد الديني وتحولها إلى دولة علمانية للبعد الديني فيها وجود بين اليمين واليسار السياسي، كانت سبباً لبروز الحركات الراديكالية والأصوليات بقوة، كما كانت سبباً في شرعية وبطولات وإخفاقات بعض الأنظمة العربية، واليوم هي مثال للدولة الصغيرة الفاعلة والقوية في الشرق الأوسط.

والواقع أن الصراع العربي/ الإسرائيلي في خاصرة الشرق الأوسط تملك فيه إسرائيل القرار والمفتاح عبر الصراع أو السلام وقيام دولة فلسطين وإنهاء الصراع مع سوريا ولبنان، وهنا، في قرار السلام، يصبح لإسرائيل في مرحلة تاريخية حيز كبير للعلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية في الشرق الأوسط وغيره، حيث تمتلك المال والتكنولوجيا والإرادة القوية، تلك الإرادة التي خلقت الكيان الإسرائيلي وجعلته في دولة قوية عسكرياً واقتصادياً وعلمياً. وتستطيع إسرائيل، وليس العراق كما تصورت واشنطن بوش، خلقَ شرق أوسط جديد بعيداً عن الحروب وبروز التيارات الأصولية والراديكالية.

وختام التحليل عن فعالية هذا المربع هو أن إسرائيل هي صاحب القرار السياسي في الصراع أو السلام الذي له الأثر الأكبر في الشرق الأوسط، أما تركيا فهي الأكثر فعالية من خلال علاقاتها مع إسرائيل وإيران والعرب والقضية الفلسطينية وعلاقات الغرب أيضاً كما أنها وجه جميل للتجاوب مع ثقافة ومعتقدات الشعب، ورغم كل الطرق والسبل المتضاربة هناك أهداف ومصالح تصبو إليها تركيا بقوة الإرادة، أما فعالية السعودية فهي كيفما كانت إرادة عربية شبه كاملة نحو السلام والتطبيع مع إسرائيل، بينما إيران هي الفاعل الأطول عمراً في حقبات الشرق الأوسط، وتتحرك بفعالية كبيرة لتحقيق مصالحها الإقليمية والدولية. أما الحديث عن دور لدول جوار إسرائيل فهي بالمختصر المفيد تدور إما في فلك السعودية أو فلك إيران.