نادر المتروك


كيف يمكن أن نتابع تعليقات بعض القرّاء على ''اقتباس'' عمودي السّابق لكلام عماد خراساني، العرفاني الإيراني؟ لقد أذهلني كيف أنّ جنود الطائفيّة غير نائمين، كما يتوقّع البسطاء والطيّبون، وهم ليسوا منعزلين أو جهلة لا يعرفون ما يدور حولهم. إنهم مستعدّون وعلى أهبّة التثمير الجاهز دائماً. وإلاّ كيف يمكن أن يكون لاقتباس - أُريد أن يكون دليلاً على تعدّديّة الفهم التديّني (حدّ التناقض)، وهو محتوى فكرة العمود - منطلقاً لشتائم وحروب طائفيّة وتطاولٍ على معتقدات وإيمانيّات الآخرين؟ لكن، ألم يكن الهجوم المنتدياتي - بالمناسبة، نسأل عن ازدواجية الجهات المعنيّة بتكميم المنتديات! - بحدّ ذاته برهاناً على أصل الفكرة المطروحة؟ كيف أنّ متدينين يزاولون التديّن الظاهري، ولكنهم منخرطون في ارتكاب أسوأ ألوان الذنوب، أي تلك التي تتعلق بالتحريف وإرسال الاتهامات المفتوحة والقدْح في الآخرين بلا ورع أو تقوى! لم يكن غريباً إذن أن تتحرّك مخيّلة كثيرين باتجاهاتٍ شتى، فحينما يغيب المعيار القيمي عن التطبيق تبدأ النوازع الذاتيّة والغرائز في السّيطرة على الموقف. لابد أنْ أُفصح أنّ الاقتباس كان مقصوداً، وهو ''حيلة'' مُخطَّط لها للكشف عن ''الأغلفة'' التي تحيط بتديّن الأفراد والجماعات، وكيف أنّ حماستها للدّين، أو لنموذجها الدّيني، لا يعني بالضرورة التزاماً بالدّين وقيمه وأخلاقياته على المستوى العملي والخاص. يمكن للمتديّن أن يتساهل في التزامه الشّخصي، ولكنه مستعد للتضحية وخوْض مجابهة مفتوحة وبلا ثمن ضدّ ما يعدّه، أو تعدّه جماعته، اعتداءاً على الدّين وأصالته ونقائه. وإذا كان يلجأ للتغطية على ''انحرافه'' الشّخصي بحزمةٍ من التبريرات المفكّكة، فإنه لا يقبل أيّ تبرير، أو تفسير، أو تأويل لوجهة نظر الآخرين أو لعقائدهم والتي يراها - بلا نقاش - كفراً أو شركاً أو بدعةً وضلالة. من جهةٍ أخرى، لا ينبغي لنا أن نتحامل كثيراً على الردود المتعجّلة. فالتديّن يحمل غلافه، وليس من العجب بعد ذلك أنْ لا يرى المتديّنون الأيديولوجيّون أبعد من سماء الغلاف، فيما السّماء الأوسع بعيدة عن أنظارهم وتفكيرهم واحتمالاتهم. في الأوضاع السّائدة، فإن عدم الرؤية يمثّل موقفاً أيديولوجيّاً ضد السّماء الواسعة، إذ يركن كلّ متديّن إلى الاعتقاد بسمائه فقط، وأنّها هي وحدها الصّافية، والمشرقة، والممطرة، والدافئة، وهي وحدها التي يصّح التوجّه إليها لطلب الخير وإنزال العذاب. لا يحتمل هذا النموذج فكرة تعدّد السّماء، وإلاّ فإنّه يخرق غلافه بيده. القيام بذلك محض هرطقة منبوذٌ صاحبها.
إحدى مظاهر المشكلة أنّ المتديّن لا يمارس تديّنه بوصفه تجربة روحيّة، بل باعتباره التزاماً فقهيّاً، وولاءاً حزبيّاً، وانتماءاً مذهبيّاً. عندما تغيب العلاقة الروحيّة في الممارسة الدينيّة (أي في تفعيل الإيمان الدّيني)، فإن التحجّر والضّيق والنصوصيّة يُصبح هو الغالب على سلوك المتديّن، وهذا هو سبب التهمة الرّائجة حول تشدّد المتديّن وعجرفته. إنها تهمة مبالغ فيها في بعض الحالات، وتعميمها مغالطة كريهة، ولكنها تجد أمثلتها الحية الكثيرة. يقول الإمام علي لمالك الأشتر في عهده المشهور ''وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فانّهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق''. لقد جمعت كلا الصنفين سماءٌ واحدة، هي سماء الأخوّة، فكان حرّياً احترام كلٍّ منهما، والرحمة بهما، والمحبة لهما، واللّطف معهما، على نفس القَدر والميزان. هل يفعل المتديّن ذلك مع غيره؟ يفعلُ ذلك إذا اعترف بتلك السّماء، من غير أن يُجبَر على التخلّي عن سمائه.