حازم صاغيّة

لم يحل خطاب القاهرة الشهير والاختلاف الإجماليّ لسلوك أوباما ونبرته عن سلوك بوش ونبرته، دون استمرار الاشتباك العربيّ معه بسبب laquo;فلسطينraquo;. وهذا فيما تُستحضَر laquo;فلسطينraquo; وقضيّتها على نحو لا يتأدّى عنه إلاّ تعاظم التناقضات العربيّة ndash; العربيّة، وعنوانها الأبرز اليوم laquo;الجدار الفولاذيّraquo; المصريّ، أو التناقضات الفلسطينيّة ndash; الفلسطينيّة ذاتها، على ما يبديه الانفصال الغزّاوي ndash; الحمساويّ عن... فلسطين. وكان اللبنانيّون حين أرادوا أن ينتزعوا قدراً من سيادتهم، رُشقوا بـ laquo;فلسطينraquo; والضرورات الاستراتيجيّة المنجرّة عنها، وكان السوريّون كلّما طالبوا بحياة أقلّ خضوعاً للطوارئ وأحكامها الأمنيّة جوبهوا بـ laquo;فلسطينraquo;. أمّا النظام الإيرانيّ فحين بحث عن قاطرة إلى نفوذ يبنيه في المشرق العربيّ، ركب laquo;فلسطينraquo;. وقد وُجد دائماً من يبرّر استبداد صدّام حسين بـ laquo;فلسطينraquo; ومن يبرّر بها احتلاله الكويت أو حرقه الأكراد.

وهذا جميعاً لم يحمل الإسرائيليّين على مزيد من التنازل، بل يدفعهم، بالعكس تماماً، إلى تشدّد وتزمّت باتا يقاربان التجاهل الكامل للموضوع وطيّ صفحته. لكنّ تصدّر laquo;فلسطينraquo;، وهذا هو الأسوأ، يترافق مع التردّي المتعاظم في معاملة الفلسطينيّين، الأمر الذي يصحّ في كلّ الأوطان العربيّة تقريباً. وقد يكون لبنان الحالة الأكثر نتوءاً، من غير أن يتفرّد فيه، عن ذلك التلازم بين انتصار laquo;الهويّة العربيّةraquo; وبين تزايد المهن التي تُمنع عن الفلسطينيّين، أو بين laquo;وفاق أبنائهraquo; وبين حرمان الفلسطينيّين حقوقهم المدنيّة تحت ذاك العنوان السمج laquo;لا للتوطينraquo; (أولسنا نريدهم أن يبقوا جيشاً ndash; جائعاً ومقهوراً وممعوساً بالطبع ndash; لتحرير laquo;فلسطينraquo;؟).

لقد اجتمعت أسباب كثيرة لجعل laquo;فلسطينraquo; تتضخّم في وعينا وفي اهتمامنا وفي جعل الفلسطينيّين يضمرون. وكان أهمّ الأسباب، ولا يزال، عجز دولنا ومجتمعاتنا، بعد نيلها الاستقلالات، عن أيّ إنجاز صلب وملموس، لا سيّما في المهمّة الأمّ التي هي التحوّل دولاً ومجتمعات. فلا الانقلابات القوميّة الراديكاليّة نفعت في ذلك، ولا التأسلم الأصوليّ بعده. هكذا استُبعد الفلسطينيّون لأنّ حضورهم يزيد في تعقيد لوحة بالغة التعقيد لا نجيد التعامل معها، بينما، للسبب عينه، ضُخّمت laquo;فلسطينraquo; فأصبح النزاع عليها النزاع الوحيد الذي لا يُحلّ على هذا الكوكب، ينمو بقوّته الذاتيّة كما لو أنّه خارج كلّ تاريخ. ويستمرّ موضوع فلسطين، في غضون ذلك، يثقل على الفلسطينيّين وعلى العرب وإمكان بنائهم دولاً ومجتمعات، كما يعزّز التشرذم الداخليّ ممهّداً لكلّ استبداد وكلّ وعي متخلّف وكلّ تدخّل في شؤون المشرق، فيما يفاقم عزلتنا عن العالم ويضعف قدرتنا في التأثير عليه، لا بل في فهمه.

وهذا ما تستدعي الشجاعة والمسؤوليّة أن نواجه به أنفسنا وشعوبنا، بل أن نفاجئ تعوّدنا اللغويّ الكسول والفقير، معدّلين تبويبنا للهموم والأجندات، متخلّين عن تلك المزايدة السقيمة بـ laquo;فلسطينraquo; و laquo;القدسraquo; والصلاة فيها أو الزحف إليها. فأن يحلّ الفلسطينيّون كهمّ إنسانيّ واجتماعيّ وأخلاقيّ حيث تحلّ laquo;فلسطينraquo; كقضيّة تزداد، يوماً بعد يوم، زيفاً ومجانيّة، مسألةٌ تستحقّ الرفع إلى نصاب مركزيّ. وغنيّ عن القول إنّ laquo;النضال في سبيل فلسطينraquo; يُربح القلّة على حساب الكثرة، فيما laquo;النضال من أجل حقوق الفلسطينيّينraquo; انتصار للكثرة، وللعقل والضمير، على حساب القلّة التي تريد لـ laquo;القضيّةraquo; ألاّ تموت لأنّ ما تغلّه عليهم مُغرٍ جدّاً.