رشيد الحاج صالح

أثار الجدار الفولاذي المصري على الحدود مع غزة، سيلاً هائلاً من الفتاوى التي تحلله وتحرمه في الوقت نفسه. فقد ذهب فريق من فقهائنا إلى تأييد الجدار، واعتباره شرعياً، طالما أنه laquo;يمنع أضرار الأنفاقraquo; التي أقيمت تحت أرض رفح المصرية. فالجدار laquo;حق شرعيraquo; لدولة تريد أن تفرض سيادتها على ترابها.
في حين أفتى الفريق الآخر من فقهائنا بحرمة الجدار، واستنكر بناءه، واعتبره جريمة laquo;تسد كل المنافذ على غزةraquo;، فجدار laquo;العارraquo; محرم شرعاً، لوضوح laquo;أضراره العدوانية على حياة الناسraquo;، ولمخالفته تعاليم رسولنا الكريم الذي حث على مساعدة الجار وليس حصاره، فالجدار laquo;خيانة لله ورسوله والمؤمنينraquo;، ولذلك لابد من العمل على التصدي له laquo;قدر المستطاعraquo;.
ونحن لا نريد الدخول في صراع الفتاوى هذه، فمواقع المفتين من أنظمة الحكم واضحة، وغاية الجدار الساعية إلى التحكم بأهل غزة، ليس بحاجة إلى شرح. كما أن النتائج السياسية لهذا الجدار يدركها القاصي قبل الداني. فما يهمنا هو التوقف عن بنية laquo;العقل الفقهي العربيraquo;، وكيفية تعامله مع الأزمات السياسية والاجتماعية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وإلى متى يبقى هذا العقل أسير المزايدات الخطابية والتبريرات الأيديولوجية.. ناهيك عن حالة الإفلاس واللاجدوى التي يعاني منها، ويموه عليها، بجعل نفسه سيفا مصلتا على رقاب الناس، متذرعاً بحجة laquo;ضبط السياسة بالشرعraquo;، قاعدة تثبت سلطة الفقهاء السياسية والاجتماعية على كامل المجتمع، وهي سلطة يمارسها الفقهاء بأشكال مختلفة، ولتحقيق أهداف تصل إلى حد التناقض. وهنا لا بد من التوقف عند أربع نقاط، توضح وتبلور حقيقة العلاقة بين فقهاء الأمة وأوضاعها السياسية:
أولاً: إن الفتاوى هي عمل سياسي، وليست عملا دينيا. فإصدارها هو دائماً لأهداف سياسية علنية، أو مضمرة، تتعلق أحياناً بالجهة التي يتبع لها الشيخ، أو يتعاطف معها، أو يخاف منها. كما تتعلق أيضاً بما يريد الشيخ أن يحققه لنفسه من سلطة اجتماعية، أو سحب للسلطة من فريق مخالف. فاصطراع الفقهاء على laquo;باطن الشرعraquo;، وتأويله وحدود تطبيقاته السياسية، صراع يمتد إلى مئات السنين.
وتعلمنا التجربة التاريخية للفقه أنه يتبع السياسة دائماً. فالنخب الدينية والفقهاء، هم في النهاية حمائم، وليسوا صقوراً، تابعين، على الرغم من الملايين التي تتبعهم. وهذا يعني أن أسباب اختلافاتهم سياسية وليست دينية، وهذا ما يفسر أيضاً، أنه في كل فترة تتعرض الأمة لأزمة كبرى، سرعان ما ينقسم الفقهاء بين مؤيد ومعارض، محلل ومحرم، لهذا العمل أو ذاك. فهذا ما حصل عندما زار السادات إسرائيل نهاية السبعينيات، عندما وقعت تفجيرات 11سبتمبر في أميركا، وعندما اُفتتحت البنوك التي تعتمد في عملها على الفائدة، وعندما قادت المرأة السيارة في الشارع. فالإسلام على يد الفقهاء قد يدعو إلى الاشتراكية، وقد يدعو إلى الرأسمالية، وقد يدعو إلى الديمقراطية أو الطائفية أو الجهاد أو الوسطية أو السلام أو الحرب.. فالنص كما يقال laquo;حمّالُ أوجه يقرؤه الرجالraquo;. والرجال هم الفقهاء والمفسرون، ومهمة الفقيه كانت، ولاتزال، التوفيق بين النصوص المقدسة وغايات وأهداف ومصالح الفئات الأقوى سياسياً واجتماعياً.
ثانياً: اتضح من خلال متابعة حركة الفتاوى الواسعة، أن النخب الدينية والمشايخ فئة ضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن فتاويها. كما أنها غير مؤهلة لإحداث laquo;التغيير في أحوال الأمةraquo;، الذي طالما تغنت به وبشرت بقدومه. وقد اتضح هذا الضعف المدهش في اعتماد الفقهاء على laquo;الدعاءraquo; وسيلةً ناجحة لحل مشكلات الأمة. فالمتتبع للخطب والمحاضرات والفتاوى والمؤتمرات التي يقوم بها الفقهاء، يجد أنهم يبدؤون كلامهم بالدعاء وينهونه بالدعاء، ويوصون الناس بالدعاء، وهذا يعني أنه ليس لديهم شيء يقدمونه سوى الدعاء، وأن فتاواهم لن تغير في الأمر شيئا. أكثر من ذلك، فإن الفقهاء، وعلى الرغم من عدم رضاهم العام عن هذا الأمر أو ذاك، تأييدهم هذا الأمر أو ذاك، إلا أن المرجعية العامة لتفكيرهم هي الرضا العام عن أحوال الأمة، ورفض أي تغيير يمكن أن يأتي من خارج الأيديولوجية الفقهية. والمشكلة أن هذا الرضا لا يعود إلى رضاهم عن واقع حال المسلمين، بل يعود إلى رضاهم عن المكانة المرموقة التي يتمتعون بها داخل المجتمع. وهذا يعني أنه حتى فتاواهم مسخرة لخدمة تلك المكانة والتسويق لأصحابها لدى عامة الناس. فلكل فتوى جمهورها الخاص بها.
ثالثاً: إن الفتاوى، هي عملية نفسانية توهم الناس، وتدفعهم إلى التخيل بأن حل مشكلاتهم يتم عن طريق إصدار الفتاوى. لدرجة أن هناك مواقع إلكترونية خصصت منافذ كبيرة لـlaquo;فتاوى الجدار الفولاذيraquo;، وكأن ارتفاع عدد الفتاوى المعارضة سيهدم الجدار، وأن ارتفاع عدد الفتاوى المؤيدة له سيطيل في عمره.
رابعاً: إن صراع الفتاوى، غير خلَّاق، ولا يرتقي بالوعي العام. فمن المعروف أن الخلافات والصراعات الأيديولوجية كثيراً ما تبلور وعيا مدركا لمشكلات الأمة بشكل أعمق، وعيا ينبه لخلفيات الأزمات التي تمر بها الشعوب، أو يكشف عن أسباب التيه التي وصلت إليه. أما صراعات شيوخ الفتاوى اليوم، فهي صراعات ليست بناءة، وتثير الشقاق وتدعو إلى رفض الآخر والتخوين، وبالتالي لا يمكن أن تتطور في اتجاه التفكير بالمشكلات بشكل أعمق، عبر إخضاع هذه المشكلات للفحص النقدي الاجتماعي.
ألم يحن الوقت الذي نفكر فيه بأزماتنا بعيداً عن الفتاوى وحساباتها؟