الصراع الأيديولوجي ... إلى متى؟
بصيرة الداود
الحياة
بعض المثقفين يرى أن التطور الطبيعي للفكر لا بد من أن يدخله في صدام وصراع وتأويل بسبب فكرة معينة أو أكثر. وهناك من يرى منهم ضرورة الاستمرار في التوسل بأفكار أو أيديولوجيات فضفاضة طرحت في زمن ما وبدأت أحداث وتطورات واقعنا الحالي تؤكدها، الأمر الذي يدعوهم إلى التشبث بها حتى قيام الساعة! وعلى رغم ذلك فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسلّم بفكرة أن وعي أمثال هؤلاء المثقفين قد سبق وعي مجتمعه، وجدير به أن يحظى بالريادة عليه وقيادته بسبب أن هذه الفئة من المثقفين لا ترى حداً لنهاية صراعها الفكري مع التيارات الأخرى المنافسة لها.
ويبقى السؤال المحير: ماذا يمكن أن يستفيد المجتمع من استمرار الصراع الأيديولوجي الثقافي؟ وما نهايته؟
لو عدنا بالقارئ الكريم إلى جذور ما يحدث الآن من محاولات يائسة لصراع التيارات الفكرية على الساحة الثقافية السعودية، ومحاولة كل تيار التعتيم على فكر التيار الآخر، فسنلحظ مدى قوة العنف الفكري المترجم إلى حوارات كلامية ذات أسلوب لا يخلو من القدح والذم والتجريح الذي لا يُطاول العقل والفكر فقط، وإنما بدأ يتوجه الى المساس بشخص أتباع كل التيارات التنويرية من حداثية أو ليبرالية أو علمانية، أو حتى أتباع التيارات الأصولية الدينية، وكأن أتباع هذه التيارات من المثقفين تصوروا للحظة تاريخية معينة أن ما يعيشه الإنسان العربي اليوم هو ذاته ما كان يعيشه الإنسان العربي في العهود الإسلامية الماضية عبر العصور، كما ينظر الى ذلك أتباع الأصولية المسيّسة، أو أنه لم تمر على عالمنا العربي أية أحداث أو تطورات شهدتها عواصمنا العربية في بغداد والقاهرة والقيروان ودمشق ومكة المكرمة والمدينة المنورة خلال عهود الخلافة الإسلامية الماضية وعبر التاريخ، فظهر المفكرون والفلاسفة والمثقفون الذين التزموا جانب السجالات الحوارية والمناظرات الفكرية والعلمية والثقافية من أجل خدمة مجتمعهم في كل عصر وكل مكان، فلم يكونوا laquo;أنانيينraquo; عندما حاولوا عدم الدخول في نزاعات أيديولوجية لا تخدم مجتمعهم، ولا تساهم في تغييره وتطوره، بل ذاق كل رائد مفكر وفيلسوف وعالم معنى مرارة العنف الذي كان يسلط على عقله وفكره وعلمه، وحتى كلماته قبل أن تخرج من نتاج إبداعاته لتنشأ داخل مجتمعه، ثم تأخذ طريقها لخدمة قضاياه المهمة.
عندما تبدأ العقول المغلقة والنفوس العنيفة من مختلف التيارات الفكرية المتصارعة في المشهد الثقافي السعودي تنشغل بمحاربة آراء وفكر بعضها بعضاً، فلا تكتفي ببذل الجهد في محاولة لكف يد هذا المثقف أو ذاك الكاتب المميز عن الكتابة، بل تحاول جاهدة حصاره والحجر على عقله وفكره، من خلال ما تنشره عقولهم المريضة باسم الدين، أو باسم التنوير بكل تياراته الحداثية من تجريح في شخص المبدع والمميز منهم، فإن هذا يعني هزيمة للعقل والفكر والثقافة أمام عنف فئات قليلة محسوبة على التيارات الفكرية سواء التنويرية أو الأصولية المسيّسة، فتعلو أصواتها العنيفة التي تحاصر من خلالها المجتمع، وتبقيه على وضعيته، وتعزله عمّا يحدث حوله في العالم من تطورات، فلا تفيد مجتمعها أو تخدم مصالح التيار الذي تنتمي إليه! بل على العكس من ذلك، فهي تعطي إشارة واضحة الى بداية التدوين التاريخي لمرحلة تنذر بالانهيار والانحطاط إذا ما استمر الصراع على أشده، واستمر التوجس من آراء هذا المفكر أو ذاك المثقف المحسوب على تيار تنويري، أو تيار أصولي سياسي، وتصبح الآراء تعتدي وترفس وتقتل عندما تخرج من أصولها الطبيعية، وتتوسل كل أساليب العنف الفكري بغية الاستبداد في نشرها، فتكون هذه الآراء هي الضحية الأولى لعنفها واستبدادها.
ومن أجل أن ترقى مختلف التيارات الفكرية السعودية عن الاستمرار في تأجيج الصراعات الأيديولوجية والدخول في مرحلة تبادل الآراء والخبرات وتقبلها، وهي مرحلة الحوار والمناظرات الثقافية الهادفة التي تم تجاوزها في الأساس، فلا بد - في رأيي - من أن يقوم أتباع كل تيار فكري وثقافي بمراجعات حقيقية لتصوراتهم وآرائهم الفكرية قبل كل شيء، وإيجاد الآليات التي تعمل على حماية الفكرة والكلمة والثقافة، وأن يحاولوا التخلص من النظرة الأبوية السياسية للثقافة في المجتمع السعودي، والتي لا تزال تتميز بالخصوصية والثبات، فتوهم معظم المثقفين وأصحاب الرأي بفكرة أنهم مثقفون مدى الحياة، وأن وصفاتهم التي يقدمونها للمجتمع تصلح لكل زمان ومكان، فيصبح الوهم laquo;الطوباويraquo; مسيطراً عليهم، بحيث يجعلهم لا يفرقون بين قراءة واقعهم وتحليله، وبين الأوهام والأحلام التي لا تجدي إلا في الانخراط في تجارة الشعارات التي لا تفيد عند التفكير في الشأن العام ومصالحه، بقدر ما تكتفي بالترفيه والشهرة الإعلامية كتعويض عن تقديم الفكر والثقافة المميزة والمبدعة. وهنا يصبح الدور ريادياً للعنف الفكري والنفسي لكي يظل مستشرياً داخل المجتمع، ومضاداً لكل فكر وعلم وثقافة وآراء لن تكون سوى مجرد كلمات تنثر على ورق!.
أم المؤمنين عائشة وحقوق المرأة
محمد عبد اللطيف آل الشيخ
الجزيرة السعودية
أول مُدافِعة عن المرأة وحقوقها عرفها تاريخ الإسلام كانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -؛ فمن يقرأ سيرتها، وأخبارها، وتعليقاتها على الأحداث التي عاصرتها يجد أن هذا الموقف أحد ثوابت سيرتها. ورغم أن كثيراً من أهل السنة والجماعة هَبّوا للرد على داعية التعصب والبغضاء والطائفية (ياسر الحبيب) عندما تعدى على هذه المرأة العظيمة بالشتم والسب والتجريح، إلا أنَّ دفاعها عن المرأة، ورفضها لتحقيرها، مواقف لم يتطرق إليها أحد حسب ما اطلعت عليه من أعمال إعلامية، وكما يقولون: إذا عُرف السبب بطل العجب؛ فالتعصب للعادات والتقاليد أصبح في كثير من الأحيان معياراً يتم من خلاله (فلترة) المعلومات التاريخية؛ خاصة عندما تكون هذه المعلومات تدحض حُجج دعاة التشدد وتحقير المرأة.
هذه المرأة الشامخة العظيمة كان لها مواقف مشهودة على أرض الواقع، وأقوال ثابتة، عبَّرت فيها أصدق تعبير عن موقف الإسلام من المرأة، ولاسيما أنها أقرب الناس إلى الرسول، وأعرفهم بسيرته وسنته، بل كانت ترد بعض الأحاديث، أو تعترض على معانيها، عندما تجدها تَمَس من قدر المرأة بوصفها إنساناً. كما أن تاريخها كان نموذجاً يُحتذى لنشاطات المرأة المسلمة في الحياة. وسوف أستعرض هنا نزراً قليلاً من سيرتها في هذا الجانب على وجه الخصوص.
كانت - رضي الله عنها - تحظى بتقدير واحترام كبيرين بين أصحابه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك التقدير فقط لأنها زوجة رسول الله، وأقرب نسائه إليه، وإنما لأنها - أيضاً - كانت بالفعل شخصية مؤثرة، ومُتميزة، بكل ما تحمله كلمة تميز من معنى. يقول أبو موسى الأشعرى: (ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها علما فيه). وقال عطاء بن أبي رباح: (كانت أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة). وقال عروة بن الزبير: (ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة).
وروى أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل: الحمار والمرأة والكلب الأسود). فلما سمعت أم المؤمنين بهذا الحديث أنكرته، وقالت: بئسما شبهتمونا بالحمير والكلاب!. وقد ذهب إلى هذا المنحى الإمام مالك وكذلك أبو حنيفة والشافعي - رضي الله عنهم - وغيرهم من الفقهاء، فلم يُبطلوا الصلاة بمرور شيء مما جاء في هذا الحديث.
ولعلَّ قيادتها لمعركة الجمل مع طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام تثبت أن المرأة في عصر الرسالة كان لها من القيمة والحقوق والمكانة والدور الاجتماعي ما يدحض حُجج أصحاب التشدد الحاطين من مكانة المرأة وقَدرِها، وإلصاق مثل هذه العادات بالإسلام. سيرة هذه المرأة العظيمة، وبالذات نشاطاتها السياسية والعسكرية والتعليمية والاجتماعية، تجعل مرافعات دعاة إقصاء المرأة عن النشاطات الحياتية، كما هو ديدن المتشددين في بلادنا، لا قيمة لها؛ ولعل هذا الجانب هو ما تعمّدَ الكثيرون تجاوزه في مرافعاتهم للذب عنها تجاه محاولات هذا النكرة الشيعي المتعصب الإساءة إلى هذه المرأة الماجدة.
إلى اللقاء.