خضير بوقايلة


أثبت التحقيق الذي نشرته صحيفة 'الغارديان' البريطانية ما كان أهل الجزيرة يعتقدونه وهو أن التشويش الذي حصل على مباراة افتتاح مونديال جنوب إفريقيا في حزيران/ يونيو الماضي وبعض المباريات التالية لم يكن عملا معزولا ولا خللا فنيا في القمر الصناعي أو شبكات البث، بل كان فعلا مقصودا الغرض منه هز مصداقية قناة رفعت تحديا كبيرا وتأليب ملايين المشاهدين عليها وزادت 'الغارديان' على ذلك أن التشويش يكون هدفه أيضا الانتقام من الجزيرة وتصفية حسابات قديمة معها.
الأردن، الرسمي وغير الرسمي، سارع إلى نفي الاتهامات الواردة في التقرير وفي نتائج التحقيق الدولي ثم تحول النفي إلى تهديد رسمي بمقاضاة الجزيرة إذا استمرت في غيها، وترافق ذلك مع تعبير أردني عن استعداد الجهات المعنية للتعاون مع الجزيرة ومن تعينهم من الخبراء لمناقشة تقرير لجنة التحقيق ثم التحقيق في صحة تلك المزاعم. الجزيرة لم ترد بعد على الدعوة الأردنية الكريمة لفتح تحقيق معمق حول تشويش جرى قبل ثلاثة أشهر.
لا أحد يعلم كيف سيكون شكل هذا التحقيق، لكننا نتوقع أن يتنقل فريق التحقيق المضاد المشترك إلى الموقع الذي صدر منه التشويش في منطقة السلط فيتأكد الخبراء أن المنطقة خالية من أية أجهزة بث ثابتة أو متنقلة. ما العمل بعد ذلك؟
ربما يكون من الأفيد أيضا إقامة حواجز عسكرية على جميع حدود المنطقة التي حددها تقرير الراصدين ثم توقيف أي شخص يمر من هناك ومساءلته وتفتيشه إن كان يحمل معه جهاز تشويش ولا مانع من اللجوء إلى بعض أنواع التحقيق العنيفة. وبعد أن يتأكد الجميع أن المارين من هناك بريئون يلتفت الفريق المضيف إلى خبراء الجزيرة فيقولون لهم: هل تأكدتم الآن أن لا علاقة للسلط ولا لأهل السلط بالتشويش؟ عودوا من حيث أتيتم إذن وأخبروا العالم أن ادعاءات الغارديان كانت باطلة.
الجريمة وقعت، وكل الأدلة التي يمكن أن تحملها تقارير الراصدين والخبراء لن تجعل الفاعلين يعترفون بما وقع. ومن حسن حظ الأردن أن إسرائيل قريبة من مكان الجريمة حيث سارع كثيرون إلى توجيه الاتهام إليها، خاصة أن تقرير المحققين لا يتحدث عن تورط أردني رسمي بل عن تشويش كانت الأرض الأردنية مصدره. إسرائيل عدو حقيقي للجزيرة ويهمها كثيرا أن تتعرض هذه الفضائية المشاغبة لتشويش دائم إن أمكن، لكن ذلك لا يمنع من القول إن الجزيرة كسبت لها أيضا عداوات حقيقية ودائمة مع كثير من الدول العربية الشقيقة وهي أيضا تتمنى أن تصاب كل قنوات الشبكة برصاصة أو صاروخ يسكتها إلى الأبد.
أما الذين يقولون إن هناك احتمالا كبيرا أن إسرائيل هي التي دبرت ونفذت مكيدة التشويش وسخرت لذلك العدة والعتاد الضروري وتوغلت في الأرض الأردنية وكان ما كان. أنا شخصيا أفضل أن يسلم الأردنيون بأنهم هم الذين شوشوا على الجزيرة على أن يفكروا مجرد تفكير في احتمال توغل إسرائيلي داخل الأراضي الأردنية ثم خروجها دون أن تتفطن لذلك العين الساهرة على أمن البلد أو أن يقولوا إنه فعل معزول ارتكبه أحدهم.
لا شك أن كثيرا إن لم نقل جل الأنظمة العربية ابتهجت لهذا الاختراق البطولي ولو تشجع الفاعل وأعلن مسؤوليته لسارع حكامنا الميامين إلى تهنئته وإعلان تكفلهم بجميع المصاريف القضائية في حال محاكمته وإدانته. صحيح أن العلاقة غير متكافئة، أنظمة شرسة ومدججة ضد قناة أو قنوات فضائية عزلاء، لكن الأضرار التي تلحقها هذه الجزيرة بتلك الأنظمة يبرر كل العداء والكره والخوف الذي نراه في تصريحات وتصرفات أدوات الحكم العربية. وإذا تقدمنا في هذا التحليل فلا يستبعد أن تكون جريمة التشويش التي طالت الجزيرة الرياضية فعلا اشترك فيه مشوشون من عدة دول تفكيرا وتدبيرا وتسخيرا وتنفيذا. ثم ما يدرينا أن تكون جريمة المونديال مجرد تمرين لجهة أو جهات تدبر لما هو أسوأ أو تحذيرا عبر الجزيرة الرياضية للجزيرة الأخرى الأشد فتكا وضررا؟
المنطقة العربية تمر بفترة مخاض كبرى على كثير من الأصعدة، وبما أن الجزيرة هي أكبر مفسد لمخططات الأنظمة التي تهوى التحرك بعيدا وضد مصالح شعوبها فإن أضمن وسيلة لردع وصد هذه الفضائية هو إسكاتها. الإسكات الأبدي الذي فكر فيه جورج بوش الابن لم يكن ممكنا، وبما أن أكبر قوة وأكبر متجبر في العصر الحديث لم يفلحا في ذلك فلا بد من التفكير في وسيلة أقل وقعا وأشد تأثيرا، ومن ذلك فقد جاء التشويش على المونديال بمثابة ضربة استباقية تحضيرا لضربة كبرى موعدها عندما يحين تنفيذ المخططات الكبرى في المنطقة وهي كثيرة تبدأ بعملية السلام التي يراد لها أن تكتمل فصولها بما يرضي إسرائيل وانتهاء بعمليات التوريث التي تطبخ هنا وهناك.
ولكن بيني وبينكم أليست الأنظمة العربية في موقف دفاع شرعي عن النفس، بينما الجزيرة هي التي كانت البادئة بالظلم والتشويش، ظلم الحكام العرب والتشويش عليهم وعلى مخططاتهم وخطط عملهم وتحريض شعوبهم عليهم؟ لو كانت الجزيرة قناة مسالمة مثل باقي القنوات الرسمية والحرة الأخرى في العالم العربي لما جلبت على نفسها كل تلك المتاعب والعداوات من بني جلدتها ومن الغرباء. كان عليها أن تُسكن الحكام العرب على شبكة برامجها وتكيل لهم المديح وتنقل للمشاهد العربي ليل نهار خطب وتصريحات وتفاصيل أسفار أصحاب الجلالة والفخامة. في كل ليلة سهرة مع حاكم عربي أو مع نجله حول الإنجازات الكبيرة والعظيمة والتضحيات الجسام والخدمات الجليلة التي تقدم للشعوب وفي الصباح جلسة مرح مع السيدة حرمه عن الأعمال الخيرية والمساهمات الاجتماعية في ترقية الشعوب والأمم.
قد يكون التحقيق الذي نشرت 'الغارديان' بعض تفاصيله قد أفسد هذه المخططات وخلط حسابات الذين أرادوا الانتقام من الجزيرة، لكن تبقى هناك وسيلة أخرى يمكن أن تنال من الجزيرة وتشوش أذهان متابعيها والمدمنين عليها في مشارق الأرض ومغاربها، وهي أن تقرر كل دولة عربية إطلاق قناة أو مجموعة قنوات تتبنى نفس خطاب الجزيرة وتصطاد من محيط مشاهديها. فهل يقدر أحد على ذلك؟