رياض نعسان أغا


يبدو مريباً أن يحتد الحوار بين فقه السنة وفقه الشيعة على فضائيات عربية تكاد تختص بهذا الحوار، فتفتح باب الفتنة بين العامة عبر مناقشات لا أجد داعيّاً لها، فالقضايا المثارة ليست من الأولويات التي ينبغي أن تنشغل بها الثقافة العربية، وعلى رغم متابعتي الجادة، لم أجد إلى اليوم أية نتيجة عملية للحوارات التي انطلقت تحت عنوان (التقريب بين المذاهب أو بين الأديان) إلا على صعيد النخب، وأما على صعيد العامة فلا أثر لها! ولا أنكر الحاجة الماسة إلى الحوار داخل الثقافة الواحدة، ولكن ما أجده من حواريات فضائية يجسد أهدافاً سياسية أكثر مما يجسد رغبة جادة في الوصول إلى كلمة سواء على صعيد عقائدي أو فكري، وهذا ما يدعوني إلى التحذير من الخلط بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، وأرجو أن يتنبه الشباب إلى أن استهداف الإسلام عبر التاريخ لم يكن يتم إلا عبر استخدام الإسلام ذاته، ولابد من التمييز بين ما هو تاريخي حدثي إجرائي وبين ما هو مقدس في الوحي أو الحديث النبوي المعتمد، فما يزال بعض الفريقين المتناظرين يحتجون بنصوص ذات صبغة تاريخية ويأخذون بكلام الرواة المتأخرين الذين تضطرب أحاديثهم وكثير منها لا صحة له أو برهان عليه. والعجب أن يكون لهؤلاء حضور في ثقافتنا إلى اليوم، كأن التاريخ لم يتحرك، وكأننا ما نزال نعيش في القرن الهجري الأول، ونعاني من تداعيات موقعة الجمل ومعركة صفين!

ولابد من أن نتساءل عن الجهات الممولة لهذه القنوات المختصة بإثارة موضوعات خلافية تاريخية، وأن نفهم لصالح من تعمل وتجتهد في استعادة أحداث تاريخية ينبغي أن يتجاوزها الفكر العربي والإسلامي، وأن ينطلق إلى فضاءات العصر ومشكلاته، بحيث ينشغل المفكرون في مواجهة الأخطار الكبرى التي تواجه أمتنا المحاصرة في برها وبحرها وسمائها، واقتصادها وحضورها بين الأمم.

ومن أخطر ما تواجهه الثقافة العربية اليوم هو هذا الإغراق للشباب عبر الفضائيات التي تهتم من الإسلام بشؤون صغيرة ثانوية تحولها إلى إشكاليات فتدور حولها الأسئلة الغزيرة والإجابات المستفيضة، حتى إن أحد أصدقائي من غير المسلمين قال لي quot;ما لكم تشغلون أنفسكم في قضايا صغيرة وإسلامكم مهدد وعروبتكم محاصرةquot;! قلت ماذا رأيت وأنكرت؟ قال quot;فوجئت بمحدث على إحدى الفضائيات يعلم الناس ما يجب على المسلم اتباعه حين يقلم أظافره، وبأي إصبع يجب أن يبدأ، وكنت أظن أنني سأسمع فكراً نيراً يوسع معرفتيquot;! ولا أنكر أنني أستغرب ما يفعل الذين يشغلون المجتمع بقضايا ليست من الأولويات في شيء، وليست من الفكر العظيم الذي تركه لنا الفقهاء والمفكرون الكبار الذين فهموا أن رسالة الإسلام هي العلم والمعرفة والقيم السامية.

وحسبي أن أسأل من يقومون على انتقاء الأولويات في نشر الدعوة عبر الفضائيات أكان المسلمون الأوائل الذين فتحوا الشرق والغرب في بضع سنين يشغلون أنفسهم بهذه المسائل الصغرى أم أنهم تفرغوا لنشر التوحيد والقيم العقلانية الكبرى؟ ولقد كان مما أثار انتباهي مؤخراً انشغال إحدى المحطات بقضية ظهور المهدي في العراق قادماً من خراسان، وبنقاش مضحك وصفه أحد المتناظرين نفسه بأنه أقرب إلى الكوميديا، ولكنها تتحول إلى تراجيديا مفجعة إذا ظن من يتابع المناظرة أن هذا هو الإسلام، وأنه مليء بالخرافات! وإن كان بعض الناس يؤمنون بشيء من ذلك، فتكفي الإشارة إلى الصواب دون الغوص في التفاصيل التي تجعل العقائد الدينية عرضة للسخرية ولاسيما أن ملايين المشاهدين يتابعون!

وأخشى أن يكون الهدف غير المعلن من مثل هذه الفضائيات هو ما ينشر على الشريط من متابعات إخبارية تحاول تشويه صورة النضال، وتوظف الإثارة في الحوار للتشكيك في قضايا خارجة عن السياق العقائدي، فثمة خلط متعمد بين الموقف المذهبي وبين الموقف السياسي، ولست ألوم المتناظرين أنفسهم، فبعضهم يدافع عن فكرته وعن عقيدته مخلصاً لها، وبعضهم يمثل دوراً مرسوماً، ولكنني ألوم من يقوم بهذا التوظيف للدَّين في خدمة مواقف سياسية ينبغي أن يكون الحوار الفكري أو الفقهي بعيداً عنها.

وعلى ضفة أخرى من الإعلام أجد في دراما التلفزيون التي أصبحت شاغلة الناس ومالئة أوقاتهم، نزوعاً إلى القضايا الدينية والتاريخية الإشكالية، والمشكلة في المسلسلات أنها لا تصدر في الغالب عن فقهاء أو علماء أو مؤرخين، فمن يعملون بها هم فنانون لا يدققون كثيراً في المعلومة، وحتى كُتابها ليسوا على الأغلب من أهل الاختصاص في أمور الفكر والدين والتاريخ، فتأتي كثرة من هذه الأعمال بعيدة عن الهدف الذي يعلنون، وتقع في هوة يصعب انتشالها منها، ويقع معها كثير من الشباب في سوء الفهم، ولا أريد أن أضرب أمثلة تسيء إلى أحد معين، فالحديث اليومي للناس في عدد من البلدان العربية يكشف عن خطر هذه الظاهرة، ولست ضد أن يتصدى فن التلفزيون للقضايا الإشكالية دينية كانت أم فكرية، لكن ذلك يقضي بأن يعهد الأمر إلى علماء متخصصين وباحثين يدركون أهمية ما يقدمون. ولا أطالب بوصاية على الفن، لكنني أطالب الفن بالمصداقية، ولاسيما حين يتناول قضايا تهم الأمة فكراً أو تاريخاً أو عقيدة، وأنا أدرك حسن النوايا ولكنها لا تشفع عند وقوع الأخطاء الكبرى.

وأما الإعلام في الصحافة فقد بات مؤسفاً أن نجد الاستخدام الأسوأ لحريتها التي تم اختراق بعضها فباتت تخدم العدو علانية في توجهاتها التي تستخف بثوابت الأمة. ولقد سئلت مرات عن ميثاق الشرف الإعلامي، وكان جوابي أن من لا يدفعه شرف داخلي للحفاظ على قيم الأمة، لن يمنعه عن خرقها ميثاق. وقد يكون من مبررات بعض الصحفيين في إثارة القضايا المذهبية والطائفية أنهم يبحثون عن المثير، ولكن مصالح الأمة أهم من مصالح الصحافة وترويجها الإعلاني، وإذا كان لابد من اقتحام الإشكاليات المذهبية أو الطائفية في الإعلام، فليكن هدف الحوار إعلان ما نتفق حوله، وإهمال ما نختلف فيه، ولابد من أن يبقى الاختلاف قائماً، فهو سُنة من سنن الحياة، ولكن الخطر أن يتحول إلى فتنة.