برهان غليون

قلت في مقال سابق، إنه لا يمكن للشخص نفسه أن يكون ناقداً علمياً للدين على طريق فلاسفة الأنوار، ومصلحاً دينياً على طريقة لوثر أو كالفن أو حتى محمد عبده. وليس للعالم أن يعمم حقيقته على الجمهور، ولا للمصلح أن ينطلق في إصلاح الدين من تطبيق المناهج العلمية على التراث. فلكل منهما أولوياته التي لا يمكن أن تختلط بأولويات الآخر من دون أن تثير شكوكاً مبررة، في البحث العلمي المطبق على الدين، وفي الدعوة الإصلاحية المستمدة منه. وهذا ما عانت منه ولا تزال الدراسات الإسلامية الحديثة في العالم العربي، والتي ربطت بين النقد العلمي للفكر والتاريخ الدينيين، والسعي إلى تسويد تأويلات جديدة للدين تجعل من الباحثين الاجتماعيين دعاة ومبشرين بدين هو بالأحرى دين العلماء العقلاني الذي ليس له علاقة بدين المؤمنين العاديين. وربما يفسر هذا ما يواجهه خطاب التجديد الديني العربي الحديث من سوء فهم، بل أحيانا من اتهامات بسوء النوايا والغايات معا.

ولعل أبرز مثال على هؤلاء هو محمد أركون الذي بدأ باحثاً اجتماعياً، أي علمياً، في الدين، وفي الإسلام بشكل خاص، وانتهى داعية إصلاح ديني، يثير عداء المتدينين أكثر مما يدفعهم إلى التجديد. والواقع أن أركون لم يكتشف رسالته الدعوية إلا متأخراً، بعد أن بدأت ترجمات أعماله تجذب إليه أنظار الكثيرين. وهكذا وجد نفسه مدفوعاً إلى الحديث كمصلح ديني. ومع نمو الحركات الإسلامية الاحتجاجية تضاعف الطلب على الخطاب العقلي في الدين، وتحول أركون إلى ما يشبه الناطق الرسمي، في منابر عربية وغربية، باسم إسلام العقل وتجديد الفكر الديني.

وليس في هذا التحول أي بأس. فليس المطلوب من العالم أن يكون معزولاً عن مشاكل مجتمعه. وأنا من الذين يعتقدون أن علم الاجتماع لا قيمة له إن لم يكن في الوقت نفسه علم إصلاح للمجتمع. مما يعني أنه لا يوجد بحث علمي منفصل تماماً عن اختيارات قيمية عميقة.

لكن نادراً ما يثير استثمار الباحثين نتائج أبحاثهم في مواقفهم الاجتماعية مشاكل فكرية وأخلاقية وسياسية خطيرة كما يثيرها استغلال نتائج البحث العلمي في الدين. ففي هذا المجال يغامر الباحث بالاصطدام مع قوة وعي المؤمنين وبإثارة عدائهم. ذلك أن الحقائق الدينية لا تستند إلى أدلة مادية أو تجريبية. وتحليل الفكر الديني ونقده، مما يشكل محور عمل الباحثين العلميين في الدين، يمس ميدان المقدسات التي تمد المؤمنين بمعنى حياتهم وتضفي قيمة على أعمالهم، وتحتل مكانة خاصة لا يمكن إخضاعها للمحاكمة العلمية أو النقد التاريخي. ومن هنا يحمل الخطاب العلمي في الدين مخاطر مواجهات حتمية، ليس بين الباحثين العلميين ورجال الدين فحسب، ولكن بين الباحثين والمؤمنين أنفسهم، عندما يدرك هؤلاء أن وراء التحليلات العلمية الجديدة يكمن خطر زعزعة المسلمات والاعتقادات الراسخة.

من هنا، ربما كان أهم ما يتميز به برنامج الإصلاح الديني هو أنه ليس مرتبطاً بالعلم، ولا يستند إلى قوة الدليل العقلي أو المحاكمة الموضوعية، ولا علاقة له بنشر التأويل العقلي للنص الديني. ولم يحدث أن كان وراء حركات الإصلاح الديني عالم اجتماع أو سياسة أو اقتصاد أو انثروبولوجيا. قد ينجم التأويل الأقرب إلى المنطق العلمي عن الإصلاح، لكنه ليس أصله ولا وسيلته. فالدين بالأساس إيمان، والإيمان ليس من أفعال العقل، بل تحركه القصة والعبرة والرمز. فهو بالتعريف فعل تسليم. وهنا، التسليم بحقائق تتجاوز العقل العلمي، حقائق وجود خالق للكون، وبالتالي للإنسان، من خارج الزمان والمكان.

لذلك لم يقم الإصلاح الديني في الماضي على أيدي مفكرين وفلاسفة عقلانيين ولا علماء رياضيين، وإنما ارتبط برجال دعوة دينيين من أصحاب الكرامة والجاذبية والسحر الشخصي. وهو بالتأكيد لا يتم أيضاً بقرار، ولا يعتمد على نوعية الفكر العقلاني أو غير العقلاني، إذ ما قيمة الفكر الجديد إذا لم يرجع صداه لدى المؤمنين، ولم يؤثر فيهم، ولم يتفاعل مع عواطفهم ويلهب خيالهم.

هذا لا يعني أنه لا قيمة للفكر الفلسفي والعقلي أو للتأويل الفلسفي والتاريخي للدين، مما نشط به الكثير من مفكرينا في العقود الأربعة أو الخمسة الماضية. لكن ليس على مستوى عملية الإصلاح الديني، أي إصلاح إيمان مئات الملايين من البشر، وإنما من باب تطوير الفكر النقدي عند النخب الاجتماعية وعند الرأي العام ككل، وهو ما لابد أن ينعكس إيجابياً على مستوى الجمهور الواسع، وعلى أسلوب تعاطيه مع الدين. بل هو شرط ولادة المصلحين من المتدينين الذين يرون في تجديد العقيدة الدينية، أو في إدخال أفكار مبتكرة على الفكر الديني، أو نقد ما هو سائد من تقاليد دينية، أو ابتكار معان وتأويلات جديدة في الدين... غاية نشاطهم ومشروع حياتهم الفكرية. فتطور الفكر الديني مرهون بتطور الفكر العلمي والموضوعي، وليس العكس كما يعتقد أكثر مثقفينا المعاصرين.

وهذا يعني أخيراً، أن تطوير مناهجنا العلمية وتوسيع دائرة نشاطنا الفكري، وتجديد أساليب تناولنا مشكلات قديمة وحديثة، والارتقاء بمستوى وعينا النظري وقدراتنا على مواجهة ما يستجد من أمور العالم، هو هدف الفلسفة والمفكرين والعلماء، وهو غاية قائمة بذاتها. وهي مفيدة، وضرورية، ليس بسبب ما يمكن أن تحدثه مباشرة من تجديد في عقائد الجمهور الدينية، ولكن لما تحدثه من تحويل في بنية العقل السائد، وما تساهم به من تربية فردية واجتماعية، تعزز روح التفكير القائم على الحجة العقلية، في الدين وخارج الدين، وتمكن لمفهوم التعددية الفكرية وحق الاختلاف، مما لا يمكن من دونه تحقيق أي إصلاح، دينياً كان أم سياسياً. وبهذا تتأكد أسبقية المعرفة العقلية، المنطقية والتاريخية معاً.