محمد حسن علوان
الآن، يغنيّ الجميع على الإنترنت وكأنهم يكتشفون حناجرهم لأول مرة. أفكار واستقراءات ومراجعات تجعل البليد الساذج يقلق لأنه يظنّ أن ثمة مجتمعا على حافة الانهيار، وتجعل الحصيف العليم يبتسم وهو يرى بوضوح كيف يحنّك المجتمع وعيه
طالما كان مجتمعنا صندوقاً مغلقاً لا يمكن التكهن بما يحويه حتى لمن يعيش في داخله. الثقوب الصغيرة التي يمكن من خلالها قراءة الحالة الاجتماعية كانت قليلة بقدر ما هي مضللة، والصناديق الصغيرة التي كانت تعيش داخل الصندوق الكبير كانت منغلقة على نفسها هي الأخرى ولا تبوح بشيء. الظواهر الطارئة التي تطفو على السطح قلما نالتها أدوات التحليل بقدر ما تناوشتها أيادي التوبيخ والقمع. كانت دراسة المجتمع عملية صعبة ومحفوفة بالمخاطر والاعتباط. كيف كنّا نفهم ما يشغل أذهان شريحة اجتماعية كالشباب مثلاً دون أن نختار عينة متنوعة، ونركّب استبيانات معقدة، ونستقرئ بشكل كيفيّ، ونخرج بنتائج شبه بدهية. الآن، صارت نوافذ التعبير الإلكتروني الجديدة مثل المنتديات، والمدونات، والفيسبوك، وتويتر، وغيرها تمنح إطلالة وافية على الحراك الاجتماعي لهذا الجيل لم تكن متوفرة من قبل. وليستبشر الباحثون الاجتماعيون بكمية هائلة من المادة الخام جاهزة للتحليل والتصنيف والتدقيق والبحث، منحهم إياها الإنترنت على طبق من السرعات العالية والتواصل الحيّ، فكفاهم بذلك عناء الاستبيانات المموهة والاستقراءات البطيئة لأي ظاهرة اجتماعية، أو قضية عامة، أو تطور ملحوظ في السلوك الاجتماعي يمكن دراسته على ضوء متغيرات مرحلية أو اقتصادية أو سياسية.
الآن يفصح الشاب عن ذاته بكل أريحية عندما يخاطب شاشة كومبيوتره فيكتشف أنه خاطب العالم، ويضغط أزرار هاتفه فيكتشف أنه جاب الزمان. العينة هائلة الحجم بقدر مستخدمي الإنترنت، والأدوات التحليلية سهلة الاستخدام بقدر ما يسرتها التكنولوجيا، والمجتمع السعوديّ بالذات متلهف لأي دراسات جادة تخبره إلى أين هو متجه في مرحلة التسارع الحديث التي بلغها. لم يسبق للمجتمعات إن كانت قراءتها سهلة إلى هذا الحد، ولم يسبق لمجتمعنا السعوديّ بالذات أن واجه نفسه، وخاطب ضدّه، مثلما يفعل اليوم على ساحات المنتديات، وصفحات الفيسبوك، وتغريدات التويتر. الأطياف تتداخل مع بعضها بشكل يوميّ ومكثف. الأفكار تتصادم، والتحفظات تتساقط، والقناعات تتغير، والأبراج العالية تهتزّ أمام حرية التعبير التي تجتاحها بشكل (جماعيّ) جامح بعد أن كانت تطرقها بشكل (جماعات) خجولة، والسلطات الثقافية تتمحور حول (الفكرة) وتنفضّ من حول (الشخص) في هجرة إيجابية نحو مجتمع (ناقد) وليس (منقادا).
السرعة التي تلقّف بها المجتمع السعوديّ تكنولوجيا التواصل الاجتماعي تعكس حاجته الماسّة إلى أدوات تعبير حرة، ومساحات تواصل مفتوحة، ذلك أن المجتمع في سنواته الأخيرة كاد يختنق بصوته غير المسموع، ويغصّ باحتقاناته الثقافية المتزايدة. واليوم جاء الإنترنت ليمنحه صوته الخاص، ومنبره الحرّ، وورشته الصغيرة التي يختبر فيها قضاياه، ويجرّب فيها أفكاره، ويختار فيها انحيازاته، ويعدّل فيها ثقافته، ويخرج إلى مجتمعه (فرداً) بعد أن كان (رقماً).
هذا يعني أن واحدة من أعوص مشكلات المجتمع السعوديّ نزل علينا حلّها من حيث لم نحتسب. خلال ثمانين سنة، توحّد الوطن وتشكّل ونما وصارع واشتدّ عوده، ولم تتوفر له من (حرية التعبير) ما يكفي لمواكبة هذه المراحل المهمة من تشكّل البنية الاجتماعية. لم يؤدّ ذلك إلى إعاقة ظاهرة في عملية التكوّن السياسي والنهوض الاقتصادي، ولكنه أدى إلى تأخر البنية الاجتماعية عن اللحاق بالركبين السابقين. وهذا ما يفسر بوضوح الاحتقانات الثقافية إزاء قضايا كانت قائمة وملحّة منذ عقود ولم يتم خوضها سوى اليوم، والأزمات التيارية التي تبدو الآن وكأنها حديثة وطارئة رغم أنها عريقة عراقة التأسيس، والتباين الشديد في أغلب الرؤى الأخلاقية بين طبقات المجتمع وأطيافه.
ظروف معقدة ومتشابكة كانت تجعل التفكير في حلول مناسبة لمشكلة (حرية التعبير) في السعودية ضرباً من تضييع الوقت، ومناكفة المستحيل. وبالتالي ظلّت حرية التعبير مادة غائبة عن منهج المجتمع، فلم ينشأ عليها الفرد أسرياً، واجتماعياً، وثقافياً، فضلاً عن أن يجرؤ عليها سياسياً. كان لهذا الغياب القسري لحرية التعبير تأثير سلبي على جوانب مهمة من التسلسل الحضاري للمجتمع، لأن حرية التعبير ليست ترفاً فكرياً أو صرعة ديموقراطية فحسب، بل قاعدة أساسية لتشكيل الهوية الفردانية، ووسيلة محايدة لانتخاب الأفكار الأفضل، ومنهجاً تصاعدياً لصقل الفكر النقديّ وبلورة مفهوم المصير المشترك. كل هذه النوتات المهمة من أغنية الحضارة تأخرت أو تقلّصت فائدتها بشكل كبير لأن الأداة الوحيدة التي تعزفها، حرية التعبير، لم تكن موجودة.
الآن، يغنيّ الجميع على الإنترنت وكأنهم يكتشفون حناجرهم لأول مرة. أفكار واستقراءات ومراجعات تجعل البليد الساذج يقلق لأنه يظنّ أن ثمة مجتمعا على حافة الانهيار، وتجعل الحصيف العليم يبتسم وهو يرى بوضوح كيف يحنّك المجتمع وعيه، ويكتشف ذاته، ويهتبل فرصه، ويوازن بعضه، ويمرّن أسنانه على القضايا الوجودية، والمصائر الإنسانية، وأسئلة الهوية والحرية والأخلاق والمستقبل. صحيحٌ أن ساحات الإنترنت مليئة بالصخب والصراخ، ولكن لا يقوم بناءٌ عظيم إلا على بساط من الطرق والضجيج والفوضى المؤقتة. الإنترنت مليء أيضاً بالعادات الجدلية السيئة: بالاستفزاز والاستفزاز المضاد. بالتأليب والاستعداء والنميمة والأجندات الصوتية. كل الأمراض التي كانت كامنة في الذات الاجتماعية، أصبحت ظاهرة على الساحة الإلكترونية. هذا لا يبعث على التشاؤم بقدر ما يبعث على التفاؤل. لأن المرض الظاهر أسهل علاجاً من الكامن، ولأن المجتمع لا يكتسب مناعته إلا بالتعرض لكل الأفكار الممكنة، والأجواء المحيطة، والقيم المختلفة.
الإنترنت ليس حلاً شاملاً لحرية التعبير، بل مجرد نافذة واسعة تخفف الكثير من احتقانات هذه الحرية الغائبة، وتؤجل الأزمات الموقوتة التي غالباً ما تتفاقم في غياب مساحات الحوار والجدل العادل. إنها بالتأكيد هدنة مؤقتة يمكن اغتنامها كتمهيد للعهد التي تصبح فيه الرقابة الرسمية من معروضات المتاحف، ويصبح فيه لكل خبر ما نسختان: نسخة ورقية مصممة على المزاج الرقابي، ونسخة إلكترونية موجهة إلى القارئ الحر. ولعلنا نتصور أي النسختين ستكون أكثر تداولاً بغض النظر عن سؤال المصداقية الصعب.
التعليقات