جابر حبيب جابر
عندما يجري الحديث السياسي أو الإعلامي عن الدول المستقرة، تجري الإشارة إلى laquo;النظام السياسيraquo; فيها، بوصفه يعكس قواعد اللعبة السياسية وعلاقة الدولة بالمجتمع وطبيعة إدارة السلطة، وكلمة النظام تنطوي على طابع الاستقرار وربما الديمومة، أما عندما يجري الحديث عن الدول غير المستقرة مثل العراق ولبنان، يستخدم تعبير laquo;العملية السياسيةraquo; في إشارة إلى ما يجري فيها من أحداث تتعلق بالانتخابات أو بتشكيل الحكومة أو بالصراعات السياسية، ومصطلح العملية يشير إلى حالة من الديناميكية والتحول وعدم الاستقرار، وربما عدم الديمومة.
الملاحظ أنه في الشرق الأوسط اليوم حيثما كانت هناك انتخابات وشكل من أشكال الممارسات الديمقراطية، كوجود أطراف سياسية متصارعة بشكل علني، نتحدث عن عملية سياسية، وحيثما غابت هذه العناصر نتحدث عن نظام سياسي. وبات الأمر وكأننا نفترض أن النهاية الطبيعية للعملية السياسية هي ظهور النظام السياسي، وبالتالي توقف هذه المظاهر الاستثنائية كالانتخابات والصراع السياسي العلني والتعددية، أو إذا عكسنا الأمر، يبدو أن الحديث عن الديمقراطية بات يرتبط في أذهان البعض بالحديث عن عدم الاستقرار، فبات الناس يوضعون قسرا بين خيارين: النظام أم العملية، الاستقرار أم الفوضى.
لكن تجربة العراق ولبنان وبعض ما شهدته فلسطين، وتجربة السودان حينما أصبح قسريا على laquo;النظامraquo; أن يرضى باستفتاء حقيقي غير خاضع لسيطرته، فبدا عليه أن يتحول من منطق النظام إلى منطق laquo;العمليةraquo;، هذه التجارب ربما باتت تنطوي على تبرير مشروع لمخاوف من صاروا يعتقدون أن امتلاك النظام السياسي، أيا كان شكله، هو أفضل من فوضى laquo;الديمقراطيةraquo; وما تحمله من تفكك لدول ومجتمعات يبدو أن جمعها بغير القبضة الحديدية غير ممكن. المشكلة في رأيي ليست في laquo;النظام السياسيraquo; ولا في laquo;العملية السياسيةraquo; كمفاهيم، بل في طبيعة من يتصدون لإدارة النظام ولإدارة العملية، فبيد هؤلاء أن يجعلوا ثبات النظام حسنة وديناميكية العملية نجاحا، كما بيدهم أن يحولوا الثبات إلى جحيم والديناميكية إلى فوضى.
في العراق رأينا الحالتين تتبعان بعضهما بعضا في تاريخنا المعاصر، من طبقة سياسية بنت نظاما سياسيا صارما وثابتا لكنها حولته إلى جحيم لا يطاق من القسوة والتخويف والقمع والكبت والمغامرات غير المحسوبة والحروب غير المفهومة والكوارث التي لا يحاسب عليها إلا ضحاياها، ثم بعد ذلك بدأنا بعملية سياسية ما زالت جارية إلا أن أطرافها تتعامل معها بمنطق laquo;اللعبةraquo; وبحسابات اللحظة وبمزاج طفولي يحول الديناميكية إلى فوضى، والتعددية إلى تشتت، والتنافس السياسي إلى مقامرة، وبناء الدولة إلى صفقات شخصية.
العملية السياسية صارت تبريرا وغطاء لكل الألاعيب، ويجري تجريدها تدريجيا من مغزى وجودها الأصلي الذي تمثل في بناء نظام سياسي ديمقراطي يستوعب مختلف القوى الاجتماعية ويعبر عن تطلعات المواطنين عبر مؤسسات وصيغ دستورية تكفل الشراكة وعدم الإقصاء والتنافس السلمي. أريد بالعملية السياسية أن تكون خيمة لبناء الثقة وتنضيج التفاهمات ومعالجة المخاوف والتخلي عن التآمر المتبادل، لكنها تدريجيا تفقد مغزاها ويتحول التنافس داخلها إلى مصدر لعدم الثقة والشك، وحراكها السياسي يتخذ شكل التآمر والتلاعب الذي باستمراره تصبح الثقة معدومة ولا تغدو هناك قيمة للوعود أو التحالفات أو السقوف العليا، فقد برهنت الطبقة السياسية أن لا سقف يعلو مصالح شخوصها ولا حدود لديها لنزعة الربح بأي ثمن، في الوقت الذي تحولت القواعد الدستورية التي أريد لها أن تحكم هذه العملية إلى بنود فضفاضة يمكن للاعبين تفسيرها كما يشاءون، ثم يفسرون تفسيراتها بما يريدون، ويكيفونها مع طبيعة اللعبة وعبر اختلاق مخارج وجد الدستور أصلا ليمنعها. ويكتمل كل شيء بمحاولة البعض فهم العملية السياسية على أنها نزهة يمكنه مغادرتها متى أراد، وصرنا نسمع تصريحات من البعض عن الانسحاب من العملية السياسية دون أن نفهم تفسيرا لذلك، ودون أن نجد معنى قانونيا ودستوريا لمفهوم الانسحاب من العملية السياسية؛ لأن الدستور حينما وضع كان يفترض واضعوه أنه يبني نظاما سياسيا، لا عملية سياسية.
حتى لو أن تهديدات الانسحاب هي مجرد ضغوط إعلامية، فإنها رسائل معلنة تعني أن لا حدود للعبة، ويبدو أن اختراق الحدود صار هاجس اللاعبين، سواء عنى ذلك خرقها قانونيا أو خرقها جغرافيا من خلال الإصرار على زج اللاعبين الخارجيين، ولو بذريعة أننا نطلب تدخلهم لمنع تدخل الآخرين!!
لقد أسأنا فهم النظام كما أسأنا فهم العملية، وصار معظم العراقيين في حيرة وهم يعيشون لبضعة أجيال أسوأ نتائج الدكتاتورية وأسوأ نتائج الديمقراطية. ما نحتاجه هو ضابط يضع سقفا لنزعة التطرف التي نميل إليها كلما اعتقدنا أن ذلك ممكن، وهو ضابط يغدو وجوده أكثر استحالة كلما أوغلنا في خرق ما لدينا من ضوابط، لم يبق منها الكثير.
التعليقات