الكويت - سليم الحسني


في تصريح مشهورة وذات دلالة كبيرة، قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليسا رايس: laquo;إن الولايات المتحدة ارتكبت آلاف الأخطاء في العراقraquo;. الاعتراف الأميركي بالتقصير جاء في فترة رئاسة الرئيس السابق جورج بوش، ويوم كانت القوات العسكرية في أوج حضورها عدة وعددا، وقد قصدت رايس الأخطاء السياسية التي حدثت في العراق، فأنتجت الانفلات الأمني والقلق السياسي وغيرهما من الاضطرابات التي عصفت بالعراق منذ سقوط النظام السابق.

كانت الإدارة الأميركية تحمل مشروعا استراتيجيا، هو الأول من نوعه في تاريخها السياسي، وذلك بإعادة صياغة المنطقة سياسيا، في إطار ما كانت تسميه laquo;الشرق الأوسط الكبيرraquo;، والذي أرادت أن يكون العراق بدايته.

مشروع عملاق برؤية خاطئة
إقليميا، زرعت واشنطن الخوف في حكومات المنطقة، وجعلتها تشعر بأن قواتها العسكرية التي أسقطت نظام صدام، ستأتي عليها واحدة تلو الأخرى، وكان الحد الأدنى من هذا الشعور، كافيا لأن يجعلها تتمنى فشل التجربة العراقية، وتتعاطف مع أي اتجاه يعيق بناء الديموقراطية في مرحلة ما بعد صدام حسين. وبذلك حولت إدارة بوش دول المنطقة الى منظومة إعاقة ضد توجهاتها. ولم تكن واشنطن مضطرة الى أن تبوح بهذا المشروع، وفي وقت مبكر جدا، فقد كان عليها أن تبقيه سريا، ريثما تجرب نجاحها في العراق، ومن ثم تطلقه كنموذج في تغيير الشرق الأوسط.
ومع ظهور أولى بوادر الفشل، متمثلة في الانفلات الأمني والاقتتال الطائفي، أصبح مشروعها موضع شك كبير، وأفقد القوة العظمى في العالم مصداقيتها في النجاح.
عراقيا، صممت الإدارة الأميركية مشروعها لما بعد صدام حسين، على أساس ملاحظات بسيطة التقطتها من المعارضة العراقية، كان أبرزها التقسيم الطائفي والقومي. فقد تعاملت مع التقسيمات السائدة في حركة المعارضة العراقية والموزعة الى شيعية وسنية وكردية، على أنها الأساس الذي يجب أن يقوم عليه شكل الحكم الجديد، وقد غاب عنها أن هذا التقسيم كان وليد سنوات المعارضة الطويلة، ولجوء القوى الى دول سنية وشيعية، ولم تكن مكونات الشعب العراقي تعيش هذا التقسيم بالحدة الموجودة عند رجال السياسة في الخارج.

الجميع أقوياء
كانت أولى نتائج المحاصصة التي اعتمدتها واشنطن كأساس للحكم في العراق، ولادة شعور عام لدى كل الأطراف، بأنها تمتلك استحقاقات غير مدونة، منها استحقاقات تقفز على النتائج البرلمانية، وعلى العمق الجماهيري وحتى على الأداء والكفاءة السياسية. وهذا ما جعل كل طرف يشعر بالغبن حين لا يمسك بأعلى درجات القوة في الدولة من المناصب السيادية، وحين يضطر الى قبول الآخر بشغل موقع متقدم، فانه يتعامل على انه قدم تنازلا، وعليه أن يأخذ مقابله استحقاقا مناسبا.
وكانت النتيجة الثانية، هي أن الشعب العراقي سارع الى الاحتماء خلف الانتماء الطائفي والقومي، للحفاظ على مكاسبه الآنية والمستقبلية بعد أن وجد أن المحاصصة هي القاعدة الكبرى التي يصمم عليها بلده. ومع تشكيل أول حكومة مؤقتة عام 2004، انفجر العنف الطائفي في مناطق الوسط والجنوب، وظهرت كركوك برأسها الكبير كأزمة عسيرة على الحل، ثم لحقت بها قضية المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد.

خطأ غير قابل للتصحيح
إن تقسيم السلطة على أساس طائفي، لا يمكن النظر إليه على انه خطأ قابل للعلاج، فقد استقر هذا المفهوم في عمق الوجدان الشعبي، وطغى على أي استحقاق انتخابي مقبل. فالسُّنة العرب لا يمكن أن يسلموا بمواد الدستور. فهم ينظرون الى أن رئاسة الوزراء مثلا هي للكتلة الكبرى، إنما يتعاملون على أنها نتيجة للتقسيم، وهي أصبحت من حصة الشيعة الى الأبد. وهذا وحده يكفي لأن يبقى عوامل التفجر الطائفي، قائمة في البلاد. كما أن الشيعة لا يمكن لهم أن يتصوروا في أي انتخابات برلمانية جديدة، أن هذا المنصب سيكون من نصيب السنة، لقد حسم الأمر وأصبح قانونا ثابتا لا يقبل التعديل.
لقد رفضت إدارة بوش بشدة فكرة إجراء انتخابات برلمانية عام 2003، لتقوم على ضوئها حكومة وطنية، وأصرت على تشكيل حكومة معينة وفق المحاصصة، وقد تنبهت الى هذا الخطأ الفادح لاحقا، لكن الوقت كان قد فات، بعد أن عصف العنف الطائفي في المدن والقرى.

تأثيرات واشنطن المحدودة
اطمأنت الإدارة الأميركية الى قوة تأثير سفارتها في بغداد على رجال السياسة في العراق. وكانت إشاراتها الخفية تترجم عمليا عبر مواقف الزعماء السياسيين. وقد شعرت واشنطن أنها تمسك بكل الخيوط من خلال هذا التأثير. لكن الحقيقة كانت خلاف ذلك، فلم يكن التأثير الأميركي سوى لمسات يومية لا تصمد أمام التأثيرات الإقليمية، فقد كانت بعض الحكومات العربية تفرض وصايتها على عدد من الكيانات السياسية، كما أن إيران تمكنت من فرض هيمنتها على طيف واسع منها، بما في ذلك القوى الكردية. وقد أثبتت إيران أنها الأكثر ذكاء في هذا المجال. فقد صممت علاقاتها مع الكيانات الشيعية والكردية وبعض القوى السنية، على أساس استراتيجي، بحيث أصبح الرأي الإيراني هو بوصلة تحديد الاتجاهات، فيما كان التأثير الأميركي يطوف كظل واسع من دون أن تكون له قدرة الفعل الحقيقي.

صناعة الخطأ الجديد
بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 7 مارس الماضي، توصلت إدارة أوباما الى أهمية إضعاف النفوذ الإيراني في العراق، والإمساك بعوامل القوة بعد كل الخسائر التي تعرضت لها في البلاد، وهو ما يتمثل في مشروع نائب الرئيس جو بايدن. فبايدن يرى أن الحل الأمثل في هذا الخصوص، هو إضعاف القوى السياسية المرتبطة بإيران، وذلك عن طريق إبعادها عن السلطة، وإيجاد بديل سياسي قوي يتمثل في التقريب بين كتلتي المالكي وعلاوي، laquo;وبذلك يتعرض النفوذ الإيراني الى ضربة قاصمةraquo;.
نظريا، تبدو هذه الصورة نموذجية في معالجة الإخفاق الأميركي، لكن التطبيق العملي ليس بالسهولة التي ترسمها النظرية. فقد يقتنع رئيس الوزراء المنتهية ولايته بهذا المقترح إذا ضمن البقاء في دورة جديدة، لكن ذلك لا يعني قدرته على الإمساك بكتلته فيما لو تحالف مع الكتلة العراقية التي يتزعمها إياد علاوي. ففي ائتلاف دولة القانون اتجاهات تدين بالولاء لإيران، وأخرى ترى التحالف مع علاوي يعني سقوطها سياسيا بنظر جماهيرها. وعلى الجانب الآخر، لا يروق الأمر لرئيس الوزراء الأسبق الذي يرى أنه صبر كثيرا على رئاسة الوزراء، وأنه تضرر أكثر من سلطة المالكي، فكيف يقبل بالتنازل عن استحقاقه الانتخابي، ليدعم خصمه اللدود الذي يشك أصلا في صدق وعوده؟! إن المسعى الأميركي، حتى لو كتب له النجاح، سيكون حلا مؤقتا. إذ سرعان ما ينظم التيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى والائتلاف الكردستاني صفوفهم لعقد تحالف متماسك يهدف الى تقويض السلطة الجديدة، مما يعني سنوات أخرى من القلق السياسي، وخسارة أميركية جديدة.