عبد الاله بلقزيز
لم يكن القرن العشرون قد انتصف، حتى كانت الفكرة القومية العربية على موعد مع متغيّر سياسي واستراتيجي كبير في حياة الأمة ومصيرها، وكان عليها بالتّبعة أن تعيش على وقع نتائجه وآثاره أشكالاً مختلفة من التفاعل والتكيّف أدخلت في نسيجها إشكالية جديدة . قامت دولة ldquo;إسرائيلrdquo; في قلب الجغرافيا العربية برعاية استعمارية ليضع وجودها الفاصل الكياني بين شرق العرب الآسيوي وغربهم الإفريقي . وهي ما قامت حين قامت لتغتصب أرضاً (هي فلسطين) فحسب، وإنما لتحمي ما اغتصبته بحرب المشروع العربي كلاً في مطالبه وتطلعاته كافة: وحدة قومية، ونهضة وتقدماً . أتى الاستعمار قبلها بعساكره ليغزو وينهب . لكنه في ما خلا حالة الجزائر كان معلوماً أنه سيرحل . أما المشروع الصهيوني، فأتى بالهجرة والاستيطان والدولة كي يقيم . وهو لا يمكن أن يقيم ويستقر إلا على حساب نهضة العرب ووحدتهم .
كانت التجزئة فادحة في نهايات الحرب العالمية الأولى، لكنها باتت أفدح بعد ثلاثين عاماً حين قامت الدولة الصهيونية . ولم تتزايد وطأتها لأن عدواً جديداً نشأ إلى جانب العدو الاستعماري والإمبريالي (هو الصهيونية) فحسب، وإنما لأن شروط التوحيد القومي تعقدت أكثر بقيام الحائل ldquo;الإسرائيليrdquo; بين حناحي الوطن العربي . ما كان صدفة، إذن، أن تكون أول تجربة وحدوية عربية معاصرة بين بلدين متاخمين لفلسطين شرقاً وغرباً، كان ذلك في مقام التحدي الذي أطلقته الحركة القومية العربية آنذاك للرد على هذه التجزئة المضاعفة الجديدة .
لم تتراجع إشكالية الوحدة العربية في الوعي القومي لحظتئذٍ، بل تقدمت أكثر من ذي قبل . لكنها أفسحت مجالاً أوسع أمام أسئلة جديدة: كيف يمكن لوحدة أن تتحقق من دون قوة؟ والقوة هنا ليست القوة الحربية حصراً التي زادت الحاجة إليها بقيام الكيان الصهيوني وإنما أيضاً القوة الاقتصادية والعلمية والتقانية التي من دونها لا وجود للقوة العسكرية نفسها . لا بد، إذن، من مشروع تنموي كبير يخرج البلاد العربية من التخلف والتبعية الاقتصادية للأجنبي . وهذا لا يكون إلا من طريق التصنيع والإصلاح الزراعي وإعادة تحديد الملكية لإشراك ملايين الفلاحين والعمال في الإنتاج . والتنمية وتعظيم الإنتاج لا يتحققان إلا بتعبئة الموارد البشرية كافة . وإذا كان ذلك يفترض من وجه نشر التعليم وادماج الأرياف في دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن تعبئة القوى العاملة في المجهود التنموي لا يكون إلا بإنصافها في حقوقها الاجتماعية المهضومة . والإنصاف هذا لا يتم إلا بسد الفجوة بين طبقات وسيطرة الدولة على الاقتصاد وإعادة توزيع الثروة .
هكذا كانت الفكرة القومية تقطع شوطها الجديد والموضوعي نحو وعي مضمونها الاقتصادي والاجتماعي الثوري الذي ما كان لها أن تعيه إلا في شروط الأربعينيات والخمسينيات مع قيام الكيان الصهيوني وقيام النظم الوطنية الجديدة . أصبحت إشكاليات التنمية المستقلة والاشتراكية (العدالة الاجتماعية) جزءاً لا يتجزأ من منظومة الفكر القومي، ولم تَعُد النظرة إلى الوحدة العربية نظرة مبسطة تربط إمكانها بتوفر الإرادة، وإنما بات على تلك الوحدة أن توفر لنفسها شروطها التحتية: التنموية والاجتماعية، إذ القوة وحدها تصنع وحدة كما في كل تجارب التوحيد القومي في التاريخ . وليس لمجتمع أن يتحصل القوة التي بها يوحّد أطرافه المقطعة إن لم يقض على التخلف والفقر والجهل والأمية والاستغلال .
لكن الدفاع عن مكتسبات التنمية، كالدفاع عن الأرض، يحتاج إلى القوة العسكرية المناسبة أيضاً، ومن دون هذه قد تتعرض المكتسبات تلك إلى التبديد مثلما تعرضت الأرض إلى الاحتلال . لم يكن حَمَلَةُ الفكرة القومية يمارسون، بهذا الاقتران الذي نشأ في وعيهم بين القوة الاجتماعية الاقتصادية والقوة العسكرية، تمريناً ذهنياً أو نظرياً لعلاقة مجردة وافتراضية، ولم يكن تشديدهم على فكرة القوة فعلاً تأملياً، فلقد جربوا ما الذي أفضى إليه فقدان القوة في مواجهة المشروع الصهيوني في حرب 1948 من نتائج وخيمة . ثم جربوا تبعات ذلك الفقدان في العدوان الثلاثي واحتلال أجزاء من مصر (1956)، وتحسسوا مبكراً الدينامية التوسعية في المشروع الصهيوني ومَيْله إلى التمدد خارج فلسطين . ثم إنهم لم يكونوا في حاجة إلى امتحان سياسي جديد ليدركوا أنه من دون قوة حربية حديثة لن يخسروا الوحدة فقط، وهي مطمحهم، وإنما سيخسرون أوطانهم الصغرى أيضاً . وهكذا لم تَعُد الفكرة القومية تناظر الدفاع عن العروبة والهوية في وجه نقائضها، ومقارعة التجزئة فكرياً بشعار الوحدة، وإنما باتت تعني شوطاً من النضال طويلاً من أجل التأسيس لشروط الوحدة في ميادين الاقتصاد والاجتماع والأمن . وهذا، من غير شك، منعطف كبير في تاريخها .
التعليقات