خضير بوقايلة

'من لطمك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر'، نصيحة إنجيلية قديمة يبدو أن تنظيم جماعة الإخوان المسلمين المصريين اكتشفوا حكمتها وقرروا العمل بها.
ملاحقة بوليس النظام الحاكم في مصر للإخوانيين لم تتوقف يوما ولعل آخرها ما ورد عن اعتقال 10 منهم في محافظة الدقهلية بعد ساعات قليلة من إعلان قيادة التنظيم عن قرار المشاركة في انتخابات مجلس الشعب المقررة الشهر المقبل. الإخوان لا يكترثون لهذه المطاردات والاعتقالات التي لم ترحم مناضلي التنظيم في كل مستوياته، طبعا إنهم لا يتوقفون عن الشجب والتنديد والاستنكار والجميع يعلم أن ذلك لم ولن يغير شيئا في سلوك النظام الاستفزازي والمهين أيضا، ثم اقتضت حكمة الجماعة أن تنتقل إلى درجة أعلى من التعبير عن سخطها من البهدلة المتواصلة على مدار العام لمناضلي التنظيم فكان قرار القيادة الحكيم بدخول سباق المنافسة الانتخابية البرلمانية، من أجل ماذا؟ من أجل (إعلاء قيمة الإيجابية في المجتمع، وضرورة ممارسة الشعب لحقوقه الدستورية والقانونية، والتصدي للفاسدين والمفسدين، وعدم ترك الساحة السياسية مجالاً خصبًا لهم بدون حسيب ولا رقيب، وتعظيمًا للإرادة الشعبية للأمة، وترسيخًا لسنة التدافع)، هكذا إذن، الإخوان الأفاضل مؤمنون أن مشاركتهم في الانتخابات القادمة ستساهم في التصدي للفساد والمفسدين وستمكن الشعب المصري المغلوب على أمره من ممارسة حقوقه الدستورية والقانونية، ومنه فإن نتائج هذه الانتخابات ستكون انعكاسا تاما وصحيحا لما أراده الشعب دون تدخل للفساد ولا للمفسدين والإخوان وما أدراك ما الإخوان شاهدون على ذلك.
جماعة المسلمين في مصر قطعوا شوطا كبيرا رفقة نشطاء الجبهة الوطنية للتغيير التي التفت حول المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي الذي ظهر مرشحا حقيقيا لتحريك المياه السياسية الراكدة في مصر ومفسدا محتملا لمخطط التوريث الذي تتضح معالمه يوما بعد يوم، لكن عندما جد الجد وسنحت أول فرصة عملية لإحراج النظام وإثبات قدرة المعارضة الحقيقية على إحداث اختراق مدو في جسد النظام وقف الإخوان الأفاضل وأعلنوا أن القاعدة النضالية قررت بنسبة غريبة التخلي عن حلفاء الأمس ومد اليد الأخرى إلى النظام للمضي بخطى واثقة نحو إنجاح الموعد الانتخابي القادم والعين الأخرى على الانتخابات التي تليها ثم التي تليها. بعض القياديين والمناضلين في التنظيم لم يخفوا استياءهم من قرار المشاركة وأيضا من نسبة المؤيدين لهذا التوجه في مجلس الشورى العام وهي نسبة، كما قالوا، تجاوزت حتى الأرقام المتراجعة التي تعلن عنها الدكتاتوريات العربية في انتخاباتها الرئاسية والبرلمانية، مع أن هذا لم يعد مهما طالما أن المشاركة واحدة سواء كانت النسبة المؤيدة 98' أم 51'. وليت الرأي العام يطلع يوما على حيثيات وتفاصيل النقاشات التي دارت بين قيادة التنظيم وقواعده وما هي الحجج التي ساقها دعاة المشاركة حتى جعلوا الأغلبية الساحقة تكتشف فجأة أن هناك خيط أمل في تغيير الوضع ومحاربة الفساد والمفسدين بمجرد المشاركة في انتخابات مجلس الشعب.
وهنا لا بد من التساؤل إن كان الذين قرروا المشاركة في الانتخابات يؤمنون، كما يؤمنون بوجود الله، أن المشاركة في الانتخابات المصرية اليوم يمكن أن تقدم شعب مصر درجة نحو الازدهار وتؤخر الفاسدين والمفسدين قيد أنملة؟ وأيضا إذا لم يكن قرار المشاركة الإخوانية بمثابة مد طوق نجاة لنظام بدأ يترنح واحتمالات سقوطه المدوي باتت وشيكة؟ لا أدري لماذا يتبادر إلى ذهني طيف الأحزاب الإسلامية المعتمدة في الجزائر وعلى رأسها حركة مجتمع السلم، كلما حاولت الاقتراب من موضوع له علاقة بجماعة الإخوان في مصر، ربما لأنني أؤمن أن الجميع ملة واحدة وأن جماعتنا في الجزائر من التلاميذ الأوفياء للجماعة الأم بل وأن كثيرا من التعليمات أو التوجيهات المصيرية تأتي من هناك أو لنقل بعد تبادل الرأي والمشورة مع القيادة الروحية في أرض الكنانة. وهنا لا بد أن أفتح قوسا للحديث عن بعض مظاهر السلوك السياسي لحركة مجتمع السلم في الجزائر حتى لا أتهم بالتجني، فهي حركة مرتبطة روحيا وهيكليا بخيوط شفافة مع التنظيم العالمي للجماعة، وهي حزب يرفع شعار (الإسلام هو الحل) أو لنقل كان يرفع هذا الشعار، أي أنه حزب إسلامي لا يزعجه أن يتحالف مع أحزاب علمانية ولا يتحرج من انتقاد النظام الحاكم في الصباح وتقبيل جبينه في المساء. حزب يعرف كل الجزائريين، وهو لا يخفي ذلك ولا يحشم منه، أنه يضع رجلا في السلطة من خلال مشاركته العلنية في الحكومة وفي كل موائد الحكم الأخرى ورجلا في المعارضة من دون أن يعلم أحد إن كان ذلك من أجل الحفاظ على توازن هش أم تنفيذا لتعليمات فوقية ليكون الحزب عينا ساهرة وأذنا لاقطة في محافل المعارضة وربما أيضا حجابا حاجزا وغطاء واقيا لأي أذى قد تتسبب به المعارضة المتهورة. وقبل أيام كشف رئيس الحكومة الأسبق في الجزائر رضا مالك أن مؤسس الحركة الشيخ الفقيد محفوظ نحناح كان قد استأذن أو لنقل أخطره أنه سيشارك في لقاء للمعارضة عقد في روما قبل 15 سنة ولما نصحه مالك بعدم الذهاب رد عليه الشيخ أنه سيذهب إلى هناك ليتحدث عن جرائم الجماعات المسلحة ضد الأبرياء ويحكي لي أحد الأصدقاء بمناسبة الحديث عن هذا الموضوع أن الشيخ شوهد في مكان ما وهو يستلم ملفات موثقة لجرائم ارتكبت في حق جزائريين، وأتوقف عند هذا الحد حتى لا أخرج عن موضوع المشاركة الإخوانية في الانتخابات المصرية. لا أدري إذن لماذا أجد نفسي أنظر إلى إخوان مصر من نفس الزاوية التي أرى بها حركة مجتمع السلم التي قال فيها نفس رئيس الحكومة رضا مالك أنه لولا النظام لما قامت لهذا الكيان قائمة في المشهد السياسي الجزائري. حدثت أخا مصريا عزيزا بشأن هذه المقاربة، فقال لي وهو العارف بكثير من خبايا التنظيم الإخواني إن الأمر ليس بهذه الصورة الفاضحة واستدل على ذلك بالشواهد الكثيرة للممارسات القمعية والملاحقات المتواصلة لأعضاء التنظيم على كل المستويات، هذا بالطبع يشكل فارقا كبيرا بين الحزب الإخواني في الجزائر وإخوان مصر إضافة إلى أن استفادة إخوان الجزائر من النظام واضحة وكاملة بحيث لا تجد بينه وبين حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي فرقا يذكر في النسب، فالثلاثة إن لم يكونوا إخوة أشقاء من أب وأم واحدة فهم إخوة من الرضاعة مع احتفاظ كل واحد بحقه في نصيبه من الإرث.
إذن لماذا يزاحم الإخوان المصريون دعاة التغيير والإصلاح في طريق المعارضة ومقارعة النظام ليقفزوا عند أول منعرج إلى الجانب الآخر من الطريق ويجدوا أنفسهم جنبا إلى جنب مع حزب النظام الفاسد والأحزاب الواهنة الأخرى؟ هل رأى هؤلاء يوما حلما ظهر فيه النظام الحاكم نادما على ما فعل طيلة القرون الماضية فقرر أن يعيد الكلمة للشعب ويحترم قراره في اختيار من يمثله في البرلمان ثم في منصب الرئيس؟ بل هل انتاب أحد هؤلاء يوما شعور أن المشاركة في انتخابات نتائجها ومساراتها معروفة سلفا قد تفلح في تغيير أو وقف تسونامي التزوير؟ وهل يراود الإخوان فعلا وهم يوسوس إليهم أنهم قادرون على تغيير مجرى الأمور وفضح الفاسدين والمفسدين والتصدي لهم وهم منجرفون معهم في نفس التيار؟ النظام لم يغير شيئا من قناعاته ولم يبد عليه أي شعور بالخجل من مواصلة مشوار السطو على إرادة الشعب، وهذا باعتراف مرشد الجماعة نفسه الذي أكد في خطابه يوم السبت الماضي والذي أعلن فيه قرار المشاركة في الانتخابات أن النظام لم يحقق (الحدَّ الأدنى للمطالب التي دعت إليها جميع القوى السياسية، كضمان لنزاهة العملية الانتخابية). فلماذا إذن المشاركة في انتخابات غير نزيهة ولماذا التخلي عن رفقاء النضال من أجل التغيير إذا كان الهدف كما هو معلن التصدي للتزوير وتقليم أظافر النظام الحاكم؟ لعلي لا أكون مخطئا لو قلت إن الضرر الذي ألحقه الإخوان بدعاة التغيير الحقيقيين من خلال قرار المشاركة في الانتخابات أعظم من قرار رفض الانضمام إلى تلك المعارضة أصلا، اللهم إلا أن يكون القراران محسوبين ومخططا لهما مسبقا في مخابر مظلمة. أما التأكيد على ضرورة الفصل بين المشاركة في الانتخابات والعمل المشترك من أجل القضاء على الفساد والمفسدين فهو يشبه الذي يحاول أن يربي الذئب والحمل جنبا إلى جنب ويحاول العيش معهما أملا في اتقاء شر الأول والاستفادة من منافع الثاني. ولا أعلم إن كان هناك من عقلاء مصر من يصدق أن الذي يشارك في انتخابات يقر سلفا أنها لا تتوفر على الحد الأدنى من شروط النزاهة بإمكانه أن يواجه الفساد وينصر وطنه ويحارب المستبدين والمزورين. ربما علينا أن ننتظر موعد الحملة الانتخابية ويوم الاقتراع لنشاهد الطريقة السحرية التي تواجه بها قيادة الإخوان (الاستبداد الذي يستأثر بالعملية السياسية عنوة ويفضح ممارساته، ويرغمه على احترام إرادة الأمة ونزوله على رأي الشارع المصري)، كما صدح بذلك سماحة المرشد العام.
أما التساؤل الأكبر الذي لم أجد له عند العارفين جوابا شافيا فهو لماذا قرر 86' من أعضاء مجلس الشورى العام للإخوان أن تكون نسبة المشاركة في حدود 30' من إجمالي عدد المقاعد، لماذا أولا تحديد نسبة معينة بدل فتح المجال للمشاركة والتنافس على كل مقاعد المجلس، ثم لماذا نسبة 30' وليس 50 أو 60 أو 86 أو حتى 10'؟ الجواب الرسمي، وقد كان ذلك عنوان المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه المرشد العام قرار المشاركة، هو أن الإخوان ألزموا أنفسهم بالوفاء لشعار (المشاركة لا المغالبة)، ولست متأكدا إن كان ذلك يعني أن الجماعة تريد مشاركة النظام الفاسد في الحكم من خلال عدد محدود ومحدد سلفا من مقاعد البرلمان ولا تقصد مغالبته والإطاحة به وتخليص الناس منه، ولذلك تفسير واحد هو أن الجماعة تخشى أو غير قادرة على أن تخوض حربا مبرمة ضد النظام لأنه لو كتب لها أن تتبوأ مكانه (دعونا نحلم) فإنها متأكدة من فشلها في تسيير دفة الحكم في البلد أو أنها تخشى عملية انتقامية من الساقطين، أم لعل الإخوان يؤمنون بالنظرية القائلة بضرورة استمرار الفساد في الأرض مخافة أن يأتي الله بقوم آخرين يذنبون ويتوبون، ويبقى وجود المفسدين في مصر أمرا حتميا كأهمية وجود الملح في الطعام. وهنا كان أحرى بالإخوان أن يوضحوا شعارهم وفق التعديل التالي (مشاركة النظام الفاسد ومغالبة المعارضة الجادة). ولا أدري لماذا حضرتني هنا قصة الأعرابي الذي قصد بائع تمر فلم يكتف بإعطائه تمرا فاسدا بل وأخسر عليه الميزان، فقال له الأعرابي قولته الشهيرة: أحشفا وسوء كيلة!