فهمي هويدي

ملف التعذيب في مصر لم يفتح بعد، ولن يفتح في الأجل المنظور، إلا إذا فاجأتنا الأقدار بما ليس في الحسبان. صحيح أن المجتمع أعرب عن غضبه واحتجاجه إزاء مقتل الشاب خالد سعيد الذي اتهمت شرطة الإسكندرية بتعذيبه. وكان ذلك الغضب الذي عبرت عنه تظاهرات الشوارع أمرا جيدا لا ريب، إلا أن الغضب لحالة صدمت الجميع شيء، وفتح ملف الظاهرة شيء آخر.
لقد قلت في مقام سابق إن التزوير والتعذيب أصبحا من laquo;ثوابتraquo; الوضع الراهن في مصر. وهو ما تؤكده الممارسات يوما بعد يوم. والانتخابات النصفية لمجلس الشورى التي تمت قبل أسبوعين تدلل على أن الالتزام بمثل تلك laquo;الثوابتraquo; لا حيدة عنه. بل إننا وجدنا أن التزوير أصبح يتم بجرأة غير معهودة، حتى بتنا نتحدث عن أملنا في تزوير ذكى، ولم نعد نتطلع إلى انتخابات حرة أو نزيهة. وأعنى بالتزوير الذكي ذلك الذي يكتفي بالتلاعب في فرز الأصوات بطريقة غير محسوسة، تجعل الناخبين يخرجون ولديهم شعور وهمي بالراحة. في حين أن التزوير الغبي هو ذلك الذي يتم في العلن، متحديا إرادة الناخبين ومحتقرا لأصواتهم.
شر التزوير أهون من شرور التعذيب، لأنك في الأول تخرج سليما ولا تصاب إلا بصورة غير مباشرة في كرامتك. وقد تريح بالك وتختصر المسافة من البداية، فلا تذهب لتدلى بصوتك، وتظل مطمئنا أن القائمين على الأمر سيضعون صوتك في laquo;مكانه المناسبraquo;، تماما كما لو كنت موجودا(!).
أما في التعذيب فسلامتك غير مضمونة. ولا تسأل عن كرامتك أصلا، لأنك في كل الأحوال ستخرج بدونها. الذي لا يقل أهمية عن ذلك أنك تستطيع أن تأخذ راحتك في الكلام عن التزوير الذي تشارك فيه جهات عدة. خصوصا أنه بات يتم أمام أعين الجمهور. أما التعذيب فعلى الرغم من أنه بات يمارس في الشارع، كما حدث مع الشاب خالد سعيد، إلا أن ذلك كان استثناء. والقاعدة أنه يتم بعيدا عن الأعين. في أقسام الشرطة وفي السجون العلنية والسرية. لكن هناك فرقا نوعيا مهما بين التزوير والتعذيب، ذلك أن الأول إذا كان يتم بأيدي جهات عدة سياسية وقضائية وأمنية، فإن الثاني يمارس laquo;حصرياraquo; في نطاق وزارة الداخلية، بأيدي أبنائها وتحت أعينهم. والمشكلة في مصر أن وزارة الداخلية جهاز متضخم يملك إمكانيات جبارة وصلاحيات بلا حدود. ثم إن له أذرعا طويلة في مختلف الميادين، خصوصا في مجالات الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع. ليس ذلك فحسب، وإنما تستطيع بأذرعها تلك تلبيسك أي تهمة أو تبرئتك من أي تهمة. وفي نموذج فتى الإسكندرية خالد سعيد. وجدنا أن بيان الداخلية قام laquo;بشيطنتهraquo;، فجعله منحرفا من أرباب السوابق، وجاء بشهود يؤكدون ذلك، ثم استصدر تقريرا من الطب الشرعي أكد أنه لم يقتل، لكنه مات مختنقا بسبب تصرفه هو. ولولا شجاعة أسرته وبعض الشهود الذين فضحوا التلفيق في القضية، ولولا غيرة مجموعات الشبان الوطنيين الذين تضامنوا معه، لتمت لفلفة الموضوع وطمست معالم الجريمة في صمت، ولحقت بسابقاتها التي لم نسمع بها.
ما سبق أعتبره مقدمة لعرض أمر يؤرقني بخصوص ما يجري في السجون المصرية. ذلك أن بين يدي رسائل عدة تتضمن معلومات مذهلة تتعلق بمعاناة نزلاء بعض السجون، خصوصا أبناء سيناء وعناصر المقاومة الفلسطينية، هذه الرسائل كتبها خارجون حديثا، وتشير بوجه أخص إلى سجون برج العرب والمرج وأبوزعبل ومقر أمن الدولة في مدينة نصر وتتحدث عن أشياء لا تصدق، عن أناس وضعوا في زنازين مسكونة بالحشرات وظلوا معصوبي الأعين طوال خمسين يوما متصلة، وعن حرمان من النوم ومن الاستحمام، وعن وضع الصواعق الكهربائية في الأماكن الحساسة من الجسم، مع السباب والضرب المبرح، إلى غير ذلك من الأساليب التي تفوق قدرة العقل أو الخيال عن الاستيعاب، وتحتاج إلى تحقيق شفاف يبين ما فيها من صحة أو ادعاء، المشكلة أن تلك الرسائل تشيع الآن في كل مكان عبر الإنترنت، وترسم صورة قاتمة للغاية لمصر، تجعل قارئها يترحم على ما جرى في جوانتانامو وسجن أبوغريب بالعراق. كنت قد قرأت بعضا من تلك الوقائع في كتاب laquo;عاصمة جهنمraquo; محمد الدريني في عام 2005، لكنى أتمنى ألا تكون laquo;جهنمraquo; قد تعددت عواصمها في العالم السفلي غير المرئي بمصر.