عدنان كامل صلاح

منتصف ليل الخميس الماضي استدعى افتخار محمد شودري، رئيس المحكمة العليا في باكستان، قضاة المحكمة لحضور اجتماع عاجل.. فهو استمع قبل قليل إلى خبر من التلفزيون (غير الحكومي) يقول إن الحكومة تنوي فصل قضاة المحكمة العليا وتعيين قضاة آخرين محلهم، وهو يريد من قضاته الصمود في مواجهة ما قد يأتي.. وصباح الجمعة كان المدعي العام يقف أمام شودري الذي بلغه بأن أي قرار يصدر عن الحكومة بتسريح قضاة المحكمة العليا سوف يعتبر خيانة، وطالبه بأن يأتي له بتعهد مكتوب من الحكومة ورئيسها يبين أن ليس في نيتها التخلص من القضاة.
الأزمة القائمة بين الحكومة الباكستانية الحالية والمحكمة العليا لم تبدأ في عهد هذه الحكومة، بل كانت بداياتها عام 2007م في عهد الرئيس السابق برويز مشرف الذي تخلص من شودري وقضاته واستبدلهم بقضاة آخرين بل ووضع شودري تحت الإقامة الجبرية بعد أن تحول إلى ناشط سياسي ورمز للمعارضة ضد نظام مشرف.. وأعادت الحكومة الحالية برئاسة آصف زرداري القضاة إلى مواقعهم تحت ضغوط المظاهرات والمسيرات التي قادتها جماعات من المحامين ذوو النفوذ في البلاد، وذلك في مارس من العام الماضي 2009م.
وتتركز الأزمة اليوم بين المحكمة والحكومة حول تشريع صدر في عهد برويز مشرف وعارضته المحكمة العليا الحالية، واستهدف التشريع إتاحة الفرصة للسياسيين المبعدين والذين أقيمت دعاوى ضدهم مثل بنازير بوتو وزوجها آصف زرداري وزعيم المعارضة الحالي نواز شريف وعدد آخر من القريبين منهم للعودة إلى باكستان، والمشاركة في الحياة السياسية تمهيداً لخروج مشرف والعسكريين من الحكم وإعادته إلى المدنيين.. ومن الواضح أنه أسيء وضع هذا التشريع إذ عوضاً عن إسقاط التهم، التي قيل إنها سياسية، عن بضعة أشخاص وربما بضع مئات ليتوسع العفو العام ويشمل ما يزيد عن ثمانية آلاف شخص من السياسيين وموظفي الدولة ورجال الأعمال وكذلك من القيادات التي عملت في عهد مشرف نفسه.
ويبدو أن شودري، رئيس المحكمة العليا، يركز سلطاته القضائية ضد الحكومة الحالية وأعضائها ولا يشمل نشاطه الأطراف الأخرى في قائمة الثمانية آلاف، فهو حكم بإسقاط الحماية من المحاكمة عن أفعال سابقة عن آصف زرداري، الرئيس الحالي للبلاد، وزمرته وبدأ في مواجهة قوية للحكومة وحلفائها.. الأمر الذي عرضه للاتهام بأن محكمته العليا أصبحت تعمل في السياسة وليس في القضاء.
باكستان -في الوقت الحاضر- في غنى عن مشاكسات وتحديات يتبادلها القضاة والحكومة، ليس لأنها نظيفة وأيدي سياسيها بيضاء، ولكن لأنها تمر بأسوأ أزماتها نتيجة للفيضانات التي أثرت في حياة ما يزيد على العشرين مليون من المواطنين، والحرب الإرهابية التي تتعرض لها البلاد من إسلاميين متشددين، فهناك حاجة لإعادة بناء آلاف المساكن وإعادة بناء الجسور وإصلاح الطرق وتوفير الغذاء والكساء والمأوى للمشردين.. ولا يمكن لحكومة يواجه أفرادها قضاء يهددهم بإدخالهم السجون أن تركز على الضروريات التي يحتاجها المواطن بل سيشغل هؤلاء أنفسهم في الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء، وترك البلاد للفوضى تفعل بها ما تشاء.
تاريخ باكستان ملئ للأسف بالانقلابات المتتالية وبالاغتيالات وعدم الاستقرار، كما أن تُهم الفساد تُوجَّه إلى السياسيين بشكل مستمر، ومن مختلف الأحزاب الحاكمة، وإن كان هناك فاسدين وآخرين أكثر فساداً.. وهي تعيش اليوم حالة من انهيار سلطة الدولة وانتشار الفساد بشكل مريع.. وفقد الثقة فيما بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية للأقاليم مما منع وصول أموال الإغاثة بشكل سلس إلى المتضررين، كما أن الأطراف الدولية التي كانت تسارع إلى دعم المتضررين في مختلف أنحاء العالم امتنعت عن تقديم الدعم المالي لباكستان عدا في حدود لا تكفي لمساعدة الشعب الباكستاني على مواجهة معاناته نتيجة لعدم ثقتها في أن الأموال ستصرف في مجالها الصحيح، وهناك فوضى كاملة في البلاد، وخاصة في المناطق المتضررة، وهي مساحات واسعة جداً.. والدولة عاجزة عن تقديم إستراتيجية واضحة لإعادة البناء والتنمية، مما يعني أن هناك حاجة ماسة لحل للوضع الباكستاني المتردي.
ويدور الحديث في إسلام أباد عن أن الحل قد يكمن في تشكيل حكومة تكنوقراط، أي إبعاد السياسيين عنها، وهناك حديث عن أنه ربما يكون من الأفضل أن يعود الجيش إلى تولي السلطة.. إلا أن باكستان بحاجة إلى أكثر من ذلك، إنها بحاجة إلى حكومة وطنية تشمل العناصر السياسية الرئيسية في البلاد، وهذا يتطلب تقديم السياسيين تنازلات لبعضهم البعض، فبدون وفاق وطني لن تتمكن باكستان من الخروج من الفوضى التي تعيشها، ولا يمكن لحزب واحد ولا حتى الجيش أن يحكمها.. ويعيد بعضاً من الاستقرار إليها.. وعلى قيادة الجيش، التي يبدو أن الجميع يتفق على كفاءتها، أن توجه السياسيين إلى مثل هذا الحل وتقوم برعايته، ليس عبر انقلاب عسكري ولكن بإقناع الجميع بهذا الحل حتى وإن تطلب الأمر لي ذراع البعض من السياسيين وغيرهم للوصول إلى الحكومة الوطنية المطلوبة بدعم من الدول الإسلامية والصديقة المؤثرة (الصين أحدها).. فالدلائل تشير إلى أن باكستان تندفع إلى الانهيار بخطي سريعة، ومتى حصل ذلك فالجميع سيكون متضرراً وسيجري تفكك الباكستان وتحولها إلى دويلات عاجزة عن خدمـة مواطنيها.