محمد السمّاك

عندما عقدت مباحثات واشنطن بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو برعاية الرئيس الأميركي باراك أوباما، دعيت للمشاركة في المباحثات الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية كاترين اشتون. غير ان اشتون اعتذرت عن حضور الاجتماع بحجة انها على موعد مع نائب الرئيس الصيني ون جياباو في بيجينغ. يومها تعرضت للانتقاد الشديد لأنها آثرت التخلي عن قضية تهمّ الأمن الستراتيجي لأوروبة مؤثرة عليها مصالح تجارية غير ملحّة. ولكن اشتون ردت على هذه الانتقادات بقولها، إنها فضلت أن تكون مفاوضاً مع بيجينغ على أن تكون متفرجة في واشنطن !!
صحيح ان مباحثات واشنطن انتهت إلى لا شيء كما كان متوقعاً، الا ان الصحيح أيضاً هو ان الدور الأوروبي المطلوب كان مجرد دور تجميلي ديكور- ولم يكن مطلوباً منه تقديم اقتراحات أو أفكار، ولا حتى تعديلات على الاقتراحات الأميركية أو الإسرائيلية.
وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد اقترح ان تستضيف أوروبة مؤتمراً دولياً حول الشرق الأوسط يعقد في باريس. ولكن الولايات المتحدة ردّت على الاقتراح بعدم اكتراث، لأنها لا تريد أن تتخلى عن ورقة الشرق الأوسط لأوروبة. وهكذا عضّت فرنسا على جراح التجاهل الأميركي وانتظرت نتائج اجتماع واشنطن لتطلق حركتها باسم المجموعة الأوروبية.
وهكذا بعد ان رفضت إسرائيل الاستمرار في تجميد بناء المستوطنات، وبعد أن استأنفت البناء فعلاً، رغم ما أبدته الإدارة الأميركية من quot;انزعاجquot;، تحركت المجموعة الأوروبية على أمل الإفادة من فشل المبادرة الأميركية واصطدامها بجدار مسدود. وعكس هذا التحرك المنفرد، الجولة المشتركة لوزيري خارجيتي فرنسا برنار كوشنير، واسبانيا ميغل انغل موراتينوس.
ومن الواضح ان التحرك الأوروبي الجديد استند إلى المساعدات الاقتصادية التي كان الاتحاد قدمها إلى السلطة الفلسطينية، كما انه استند إلى حاجة رئيس السلطة محمود عباس إلى مبرر لعدم الاستقالة كما سبق وألمح إلى ذلك عدة مرات إذا فشلت المباحثات السياسية وإذا واصلت إسرائيل بناء المستوطنات.
ولكن هل يمكن أن ينجح الاتحاد الأوروبي حيث فشلت الولايات المتحدة ؟
لعل أهم ما طرحه وزير الخارجية برنار كوشنير أثناء مباحثاته مع القيادة الفلسطينية هو ان الاتحاد الأوروبي على استعداد للعمل على استخراج قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة (وليس من مجلس الأمن الدولي) بإعلان الدولة الفلسطينية. ولكن السؤال هو: ما قيمة قرار يصدر عن الجمعية العامة لا صفة إلزامية بتنفيذه، فيما القرار المطلوب من مجلس الأمن يصطدم بالفيتو الأميركي؟!
ثمة أمران يفرضان طرح هذا السؤال: الأمر الأول هو ان الولايات المتحدة رغم موافقتها على مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية إلا إنها تريد ان يتم ذلك بالتوافق الإسرائيلي الفلسطيني وليس بالفرض من الخارج. أما الأمر الثاني فهو ان الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها أب مشروع الدولة الفلسطينية لن يسعدها أن تتم الولادة على يد غير يدها، حتى لو كانت يد الحليف الأوروبي.
لقد عرفت المباحثات السياسية حول الشرق الأوسط مراحل عديدة تبادل خلالها الأدوار كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (حتى قبل ولادة الاتحاد-وطبعاً قبل ولادة اللجنة الرباعية الدولية المؤلفة منهما إضافة إلى الاتحاد الروسي والأمم المتحدة). ولم يحقق هذا التبادل في الأدوار أي انجاز يذكر سوى الإبقاء على استمرار مساعي التسوية التي تدور في حلقة مفرغة. من دون أن يؤدي هذا الدوران بالنسبة للقضية الفلسطينية تحديداً إلى أي نتيجة. حتى بدا وكأن الاستمرار في المباحثات هو هدف في حد ذاته بديل عن الصدام. فعندما بدأت المساعي على قاعدة خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة، استدرجت المباحثات المفاوض الفلسطيني إلى الاعتراف (منظمة التحرير) بشرعية السيادة الإسرائيلية على أراض ضمن حدود هدنة 1967 مما أدى إلى انخفاض مساحة الأراضي الفلسطينية من 43 إلى 22 بالمائة من مساحة فلسطين الكلية، وارتفعت بذلك quot;حصةquot; إسرائيل من 56 إلى 78 بالمائة.
وحدث الأمر ذاته بعد اتفاق أوسلو ونتيجة له، إذ تخلّت منظمة التحرير عن 22 بالمائة من الضفة الغربية مقابل تعهد إسرائيل بالانسحاب من بقية الأراضي، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن.. بل ان ما يحدث هو بناء مستوطنات يهودية على هذه الأراضي الفلسطينية !!
كان الاعتقاد بأن تجزئة التسوية يسهل التعامل مع تعقيداتها الشائكة. غير أن التجزئة شتتت المفاوض العربي وأضعفته، ومكّنت إسرائيل من استفراد كل من مصر والأردن.. ومن ثم الاستقواء على فلسطين وسورية ولبنان.
وهكذا في الوقت الذي كان الوفد الثنائي الأوروبي (كوشنير مارتينوس) يجول بين رام الله والقدس المحتلة، كانت إسرائيل تقرّ قانون الولاء الديني اليهودي للدولة وهو إجراء لم تسبقها إليه أي دولة أخرى في العالم، حتى جنوب أفريقيا في مرحلة الابارتيد التمييز العنصري. كما كانت تمول بناء سلسلة جديدة من المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي يفترض أن تنسحب منها لإقامة الدولة الفلسطينية. وكذلك كانت تقر قانوناً آخر بإحالة أي اقتراح للانسحاب مما تبقى من الضفة الغربية ومن الجولان السوري المحتل على الاستفتاء الشعبي العام. علماً بأن قراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338 ينصان على وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة (بما فيها القدس) مقابل الاعتراف العربي بها ضمن حدود آمنة. ولكن إسرائيل حصلت على الاعتراف (ولو كأمر واقع) من دون الانسحاب. وهي تتعامل مع موضوع الحدود الآمنة توسعاً من هنا، وضمّاً من هناك، والتفافاً حول القرى والمزارع العربية من خلال جدار الفصل العنصري الذي أقامته.
ومع توسيع الاستيطان تشدّ إسرائيل الخناق على فلسطينيي ما يعرف بالخط الأخضر، داخل حدود 1948، وقد أعدّ وزير خارجيتها ليبرمان مشروع الترانسفير الذي يتطلب من أجل أن تكون الدولة يهودية أن لا يبقى فيها فلسطيني واحد مسلماً كان أو مسيحياً. ولعل مدينة القدس هي الموقع الأول الذي ينفذ فيه هذا المشروع حيث تطرد عائلات فلسطينية من بيوتها، لتمنح للمستوطنين اليهود الذين يستقدمون من شتى أنحاء العالم.
وهكذا عندما عقدت القمة العربية اجتماعها الطارئ في مدينة سرت الليبية لبحث الموقف العربي من مبدأ الاستمرار أو الانسحاب من المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، حدث أمران خطيران: الأول على الأرض، وهو استمرار عملية بناء المستوطنات اليهودية في القدس تحديداً وفي الضفة الغربية عامة. أما الأمر الثاني فكان في السماء. وهو عقد صفقة تسلح إسرائيلية جديدة مع الولايات المتحدة يحصل بموجبها سلاح الطيران الإسرائيلي على 20 مقاتلة جديدة من نوع أف 35 بقيمة 2,75 مليار دولار.
المستوطنات على الأرض تُبنى بأموال تُجمع من تبرعات أميركية ويستوطن فيها يهود يُستقدمون من الولايات المتحدة، ويتعاملون مع الفلسطينيين وكأنهم هنود حمر. والمقاتلات في السماء يسدد معظم ثمنها من المساعدات المقررة من الدولة الأميركية ومن الهبات المعفية من الضرائب - التي تقدمها شركات ومؤسسات أميركية أيضاً.
ومع ذلك تطلب الإدارة الأميركية من المفاوض الفلسطيني الاستمرار في المفاوضات بحجة أنه لا بديل غير ذلك !!
فالمباحثات مستمرة مرة على الطريقة الأوروبية، ومرة أخرى على طريقة الرباعية الدولية، ودائماً على الطريقة الأميركية.. ولكن التسوية ممنوعة حتى إشعار آخر.