أمجد عرار

ليس لدينا، حتى الآن، ما يمكّننا من التنبؤ بالزمن الذي سيأتي ولا يستطيع الطغاة والاستعماريون والاحتلاليون مواصلة لعبة استخدام الأمن مطية لطعن الحقيقة، وسوطاً لكبت أي صوت يصرخ أو يهمس ضد سياساتهم . الدكتاتوريون يستخدمون الأمن ذريعة لإحالة حياة شعوبهم إلى جحيم، فتنشغل بنفسها وتترك لهم ما هم فيه من امتيازات السيطرة والنهب والنفوذ . ldquo;إسرائيلrdquo; قامت ككيان أمني واستمرت كذلك، وارتكبت ولاتزال جرائم حرب باسم الأمن، وباسمه تسعى إلى إذلال كل من يفاوضها من الفلسطينيين والعرب . أمريكا، وهي معلّمتها، تستبيح كل مكان تستطيع الوصول إليه باسم أمنها القومي .

بحجة الحفاظ على الأسرار الدفاعية وحماية ldquo;الأمن القوميrdquo;، طلبت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) من دار للنشر في سبتمبر/ أيلول الماضي، وقف إصدار مذكرات العميل السابق للاستخبارات الأمريكية أنطوني شافر التي يروي فيها تجربته في أفغانستان . في نفس اليوم قرر الرئيس باراك أوباما منح جندي أرفع وسام عسكري أمريكي لقيامه بعمل ldquo;بطوليrdquo; في أفغانستان . وبطبيعة الحال، يكفي الاستماع إلى نشرات الأخبار لمعرفة أن العمليات السرية التي يتحدّث عنها شافر لا تتعلّق بإغاثة منكوبين ومساعدة مرضى وفقراء، وإلا لنُشرت المذكّرات وضُخّم مضمونها .

يوم الجمعة الماضي نشر موقع ldquo;ويكيليكسrdquo; وثائق سرية تغطي ست سنوات من الاحتلال في العراق . وإذ أماط الموقع اللثام عن انتهاكات ارتكبتها قوات الاحتلال وعملاؤها، خرجت الإدارة الأمريكية وبيتها الأبيض بصراخ مرتفع ضد نشر الوثائق، ومن دون أن تشكّكا في صحة مضمون ما نشر أو سينشر، عاد كلاهما إلى أسطوانة الأمن القومي .

مئات المدنيين العراقيين أعدموا على حواجز الاحتلال، مئات آخرون عذّبوا في سجون العراق ldquo;المحرّرrdquo;، تستّر عليها المحتلون وعملاؤهم . بعض السياسيين الذين يتقنون لعبة الكلام عن الحريات وحقوق الإنسان والقانون، متورطون بإدارة فرق للقتل والتعذيب، والأنكى أن بعض هؤلاء فازوا في الانتخابات وعززوا مواقعهم باسم الديمقراطية .

لا ندري ماذا سيقول أبناء الشعب الأمريكي عندما يعرفون أن الجنود الذين أرسلوا بذريعة تحرير العراقيين، قطعوا أصابع معتقلين وحرقوهم بالأسيد؟ ماذا سيقولون عندما يقرأون أن طائرات دولتهم العظمى تقصف مدنيين وتقتل أطفالاً ونساء وعواجيز؟

صحيح أن هذه الوثائق لم تضف شيئاً إلى تصوراتنا العامة عما يحصل في بلد محتل، وصحيح أيضاً أن الاحتلال ذاته أكبر جريمة بحق الشعوب، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الوثائق ليست صادرة من كركاس أو هافانا أو جنوب لبنان، لكي يلقي بها المواطن الأمريكي جانباً .

بدل أن تقول السيدة هيلاري كلينتون إن نشر هذه الوثائق قد يعرّض حياة العديد من العراقيين والعسكريين الأمريكيين للخطر، كان على إدارتها أن تحاول مرة أخرى أن تضحك على العالم، ولو بلجنة تحقيق على غرار ما تفعل حبيبتها ldquo;إسرائيلrdquo; .

ولو كانت مسألة الأمن القومي تعني أبناء الشعب الأمريكي لكنا أول المنددين بأي خطوة تمس بهم أو تعرّضهم للخطر، لكن حكومتهم تكذب علينا وعليهم، وتوظّف الأمن لغايات الاستعمار بشكله الأشد قبحاً .

هل رأيتم أحداً يجعل المياه سوداء؟ لقد فعَلوها وأتوا للعراقيين ب ldquo;بلاك ووترrdquo; .