رشيد الخيّون

تكررت المادة الخاصة باستقلال القضاء في الدَّساتير العراقية الدَّائمة والمؤقتة كافة؛ على أنه للعدالة لا للسِّياسة. دستور (1925): quot;المحاكم مصونة مِنْ التَّدخل في شؤونهاquot; (المادة: 71). دَّساتير: 1958، 1964، 1968: quot;القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة أو فرد التَّدخل في استقلال القضاء...quot; (المواد: 23- 85 -79). قانون إدارة الدَّولة (2004)، ويسميه العراقيون قانون بريمر: quot;القضاء مستقل، ولا يدار بأي شكل من الأشكال من السَّلطة التنفيذيةquot; (المادة: 43). وأخيراً دُّستور (2005): quot;القضاة مستقلون، لا سلطان عليهمquot; (المادة: 85).


لم يُلتزم بقدسية العدالة في العهود كافة، مع اختلاف حجم التَّدخل أو الهتك. كانت المحاكم الاستثنائية تُشكل في العهد الملكي، وربما أفضحها سنة 1935، إبان الثَّورة الفلاحية العشائرية بسوق الشُّيوخ جنوب العراق، وقد تحدث القاضي عبود الشَّالجي (ت 1996) عنها، واضطر إلى الاستقالة لأن الأحكام لم تكن مستقلة. ومِنْ طريف ما حدث: أن حصل حكم بتفسيرات غير منطقية، فأحدهم حُكم برسالة بينه وبين تاجر مِنْ بعقوبة، تقول: quot;ابعثوا السَّمك سيصلكم البرتقالquot;. فسرها القاضي: أن السَّمك رمز للبنادق والبرتقال رمز للقنابل. بينما سوق الشُّيوخ مشهورة بالسَّمك وبعقوبة بالبرتقال (مقابلة خاصة مع الشَّالجي).

كذلك يُذكر أن فهداً (أُعدم 1949)، مؤسس الحزب الشُّيوعي العراقي، حُكم هو ورفاقه بالسِّجن المؤبد، ثم أُعيدت المحاكمة، ليحكموا بالإعدام. كان الغالب على الرأي أن المحاكمة أعيدت بطلب مِنْ بريطانيا، لكن المؤرخ العراقي كمال أحمد مظهر أفادني بمعلومة عثرَ عليها في مركز الوثائق البريطانية، والرَّجل كان محسوباً على حزب فهد، وهي رسالة مِنْ الخارجية البريطانية ضد الحكم بالإعدام. بمعنى أن القرار كان عراقياً سياسياً.

أما في عهد عبدالكريم قاسم فكان تشكيل محكمة الشعب، كمحكمة عليا لا تخضع إلا لإرادة سياسية، فعلاً فاضحاً في هدر استقلال القضاء! وكان رئيسها فاضل عباس المهداوي (قتل 1963). لكن هناك مثالاً آخر يعطي صورة لاحترام ذلك العهد للقضاء، ألا وهو عندما تقدم الحزب الإسلامي العراقي (الإخوان المسلمين)، لإجازة حزبهم، وحكمت محكمة التَّمييز لصالحهم، لم يتدخل عبدالكريم لنقضه، وكان كارهاً لإجازة الحزب (المشايخي، تاريخ نشأة الحزب الإسلامي العراقي).

ولضيق المجال نضطر لعبور الفترة القومية العارفية والبعثية الثَّانية، ولا يُسأل فيها عن استقلال للقضاء، حيث وجود المحاكم الخاصة العرفية ومحكمة الثَّورة الرَّهيبة، التي غدا فيها المحامون ضد المتهمين، مع اختلاف نسبة حجم القسوة بين العهدين. ولنا تمييز الفترة الحالية عن غيرها كونها جاءت بدولة جديدة أولى دعواتها أن القضاء للعدالة لا للسياسة، وتأسس مجلس القضاء الأعلى مستقلاً عن السلطتين: التشريعية والتنفيذية!

وفي مقابلة مع رئيس مجلس القضاء الأعلى أظهر فيها أنه لا تدخل على الإطلاق في شأن مؤسسة العدالة، وهي تؤدي مهامها القانونية بحيادية. لكن خلافاً لما تحدث به قاضي القضاة لفضائية quot;الحرةquot; الأميركية، فإن محاكمة صدام حسين (أعدم 2006)، لم تكن بريئة مِنْ التَّدخل الحزبي، في أن تُختار قضية الدُّجيل الملتبسة لا غيرها مِنْ القضايا! أحد القضاة الكبار، واحتفظ بالاسم، قال: quot;لو كان هناك دفاع جيد عند صدام لم يُعدم في هذه القضيةquot;. وبالفعل أشار أحد القانونيين الأميركيين إلى أن صدام لا يُحكم بأكثر مِنْ ثلاث سنوات. كان هذا قبل إصدار الحكم!

مبررات التَّدخل: أولاً: أن وجود حزب quot;الدَّعوةquot; على رأس السُّلطة التنفيذية وراء أن تكون قضية الدُّجيل هي الأولى، فأكثر من سنتين، خلال المحاكمة، والحزب في الواجهة بعد غياب كاد يجفف وجوده داخل العراق. ثانياً، قدم حزب quot;الدعوةquot; نفسه على أنه الضحية لا غيره. ومعلوم أن المحاكمة الأولى تأخذ مداها الإعلامي والشَّعبي. ثالثاً: عندما ظهر المالكي يمضي حكم الإعدام، أمام الكاميرات، كانت رسالة بأن حزبه هو صاحب الانقلاب، وبالفعل قالها البسطاء مِنْ أهل ضحايا النِّظام السابق: quot;المالكي أعدم صدامquot;! وكأن الأميركيون لم يسقطوه، ولم يدخلوه في قفص الاتهام، ولم يقودوه إلى المقصلة!

بينما هناك مِنْ القضايا التي يُحكم عليها صدام، وتضمن الوحدة العراقية، بل تقلل مما حصل مِنْ العنف. وماذا فعل القضاء الأعلى مع المدعي العام الذي رُفع على الأكتاف عند إعدام صدام هاتفاً: quot;منصورة يا شيعة حيدرquot;، ظاهراً بالصوت والصورة! ومعلوم أنه قاضٍ، والهتاف بحد ذاته يتناقض مع الدُّستور، والوحدة الوطنية! إذن لم يكن القضاء مستقلاً، وقد خضع لتوجيهات حزبية في إقالة قاضيين مِنْ المحكمة!

بعدها نأتي على ما تورط به القضاء، وهو تفسير المادة (73): quot;يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهوريةquot;، أنها التي تتشكل داخل البرلمان لا الفائزة في الانتخابات. وبهذا التفسير أدخل البلاد في أزمة عقيمة، فأين هي الكتلة البرلمانية وأين البرلمان! وأين مجلس القضاء مِنْ ترك البلاد بلا حكومة، أو حكومة بلا مسوغ نيابي!

لكل ما تقدم وغيره، يظهر أن القضاء، خلافاً ِلما جاء في الدُّستور، للسياسة لا للعدل. بعدها أين السلطة القاضية مما افتضح مؤخراً من التجاوزات الرهيبة، بما عُرف بكتائب الموت!

ليس مطلب القضاء للعدالة لا للسياسة حديثاً، فكتب التاريخ ملأى بمحن الفقهاء، مَنْ افتعل الجنون والحمق، ومَنْ هرب كي لا يُكلف بالقضاء، وعندما أراد الخليفة القائم بأمر الله (ت 467 هـ) أبا يعلي الفراء (ت 458 هـ) قاضياً، اشترط لقبول المنصب: quot;ألا يحضر أيام المواكب الشَّريفة، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطانquot; (الفراء، الأحكام السلطانية)، كي يضمن استقلاليته.

ولما شك الوزير ناصر الدَّولة، أيام المقتفي لأمر الله (ت 555هـ)، بمنفذي أحكام الجنايات، طلب quot;أن تُعرض عليه الأيدي والأرجل التي انقطعت، وتُعد بحضرته، ويستوفى العدد عليهم، لئلا يرتفق أصحاب الشُّرطة مِنْ الجناة، ويطلقوا مِنْ غير علمهquot; (مسكويه، تجارب الأمم). ومع أخذ تبدل الأزمنة بالاعتبار، يُطلب مِنْ القضاء العراقي مراقبة مَنْ يُبرأ مِنْ أهل الفساد والقتل، مِنْ قبل المحاكم! ذلك كي نطمئن أن الخسارة الفادحة ستعوض بمؤسسة قضاء للعدالة لا السياسة!