جابر حبيب جابر


يتساءل كثير من المراقبين: لماذا لا تتصرف الولايات المتحدة في العراق على النحو الذي يجب؟ بمعنى: لماذا لا تدعم أصدقاءها laquo;المخلصينraquo;؟ والبعض يذهب أبعد من ذلك إلى القول: لماذا لا تفرض الولايات المتحدة حكومة بالمقاييس التي تريدها؟ (وهم في الغالب يتحدثون عن المقاييس التي يريدونها هم).

أغلب المعلقين الذين ينحون هذا المنحى يميلون إلى تبسيط الأشياء ولا يختلف منطقهم في التفكير عن أي مجموعة متعصبة ترى الأشياء بوجهين فقط، وبالتالي تتجاهل العالم المعقد للسياسة بما يتسم به من تشابك للمصالح والرؤى والأهداف. وفي منطقهم هذا غالبا ما ينسون عدة حقائق، أولها أن ليس في السياسة أصدقاء مخلصون، بل إخلاص للمصالح، وثانيها أن أميركا تنظر إلى ما هو أبعد من أسماء الشخوص في صوغ سياستها، وثالثها أن أميركا وخلافا لكثيرين منا تنظر لما هو أبعد من اليوم والغد. في السياسة مصائر البلدان لا يقررها مزاجنا الشخصي واستحساننا لفلان أو علان من الناس، كما أن تشكيل الحكومات لا سيما في بلد مثل العراق؛ حيث يتجاوز الأمر فيه مجرد تعيين رؤساء ووزراء بل يتعلق بالسلم العام وبوجود البلد وبوحدته وبمجمل عملية بناء الدولة فيه، فإن رصف الأصدقاء (على افتراض وجودهم) في تحالف هش يقصي جزءا كبيرا من المجتمع، يعني تحقيق نصر آني، ولكن هزيمة في المدى المنظور.

الأميركيون اليوم واقعيون بما يكفي، لا لأنهم لم يقترفوا كثيرا من الأخطاء في العراق، بل لأنهم اقترفوا ما يكفي من الأخطاء، وبات عليهم أن يؤمنوا لأنفسهم تراجعا بأقل قدر من الخسائر والمغامرات. من هنا يبدو المفهوم الأميركي للشراكة قائما على ضرورة عدم إقصاء أي طرف رئيسي في المعادلة العراقية التي تشكلت بعد الانتخابات، وعلى الوصول إلى حد أدنى من الاتفاق يمكن فيه للممثلين الرئيسيين من الشيعة والسنة والأكراد أن يشعروا بأن بعض مطالبهم قد تمت الاستجابة لها.

السؤال الذي يطرحه الأميركيون عند التفكير في الحكومة الجديدة هو هل بالإمكان لأي حكومة أن تكون فاعلة وحقيقية إذا ما أقصت 80% من التمثيل الشيعي، أو 90% من التمثيل السني، أو 85% من التمثيل الكردي؟ هل العراق في وضع يمكن فيه للشيعة أن يمثلوا السنة أو للعرب أن يمثلوا الأكراد؟ إذا كان الجواب لا، فإن الأميركيين توصلوا ببساطة إلى أن ما يحتاجه العراق هو حكومة تطمئن الجميع وتمثل أهم القوى السياسية التي أفرزتها الانتخابات، ولكنها لن تكون بالضرورة حكومة فاعلة أو ذات كفاءة، لأن هذه الأطراف ستنقل صراعاتها إليها وسيحتفظ كل منها بقوة تعطيلية. لكن بالنسبة للأميركيين فإنهم غير مهتمين بمدى كفاءة الحكومة بقدر اهتمامهم بقدرتها على طمأنة الجميع، أما حديث الكفاءة فهو متروك للعراقيين ولقدرتهم حتى في هذا الظرف وحتى وفق هذه المعادلة في الشراكة أن ينتجوا حكومة ذات كفاءة، وهو ما ليس مستحيلا لو تمتعت الطبقة السياسية بقدر أدنى من الحرص والالتزام.

هذا هو الموقف الأميركي في مسألة الشراكة، فهو موقف يركز على معادلة شراكة بين الأقوياء أكثر مما يركز على من سيكون رئيسا للوزراء، أما في الشرق الأوسط فإن الجميع يركز على الأمر الثاني لأن الجميع ينطلق من فكرة أن رئاسة الوزراء هي منطلق لإحداث التغيير ولتأمين سيطرة طرف على آخر. من هنا فإن مفاهيم الشراكة التي تطرحها القوى العراقية هي مفاهيم مبتسرة تنطلق من مصلحة كل هذه القوى، ولذلك قد يميل البعض في laquo;التحالف الوطنيraquo; إلى حكومة دون شراكة فاعلة من laquo;العراقيةraquo;، متوهما أن ذلك سيجعلها أكثر كفاءة وأسهل عملا، وقد يميل البعض في laquo;العراقيةraquo; إلى حكومة دون شراكة فاعلة من laquo;التحالف الوطنيraquo; أو إحدى قوتيه الرئيسيتين، متوهما أن ذلك سييسر له إحداث التغيير الذي ينشده في معادلة السلطة.

ولذلك فإن صفقة الشراكة التي يفكر فيها الأميركيون هي تلك التي تجمع القوى الرئيسية الثلاث التي على الرغم من كل ما بينها من اتهامات وخلافات، فإن أيا منها لا يستطيع أن ينكر الوزن التمثيلي للآخر، ولا ينفع لحل هذه المعضلة أن يبحث الشيعة عن شريك سني ضعيف، أو السنة عن شريك شيعي ضعيف، أو العرب عن شريك كردي ضعيف. يعتقد الأميركيون أن أطراف الصفقة لا بد أن يكونوا أولئك القادرين على إحداث تغيير على الأرض، وعلى تطمين جمهورهم، وبالتالي ضمان أن لا يتم تهميش أي من القوى الرئيسية. إنها صفقة لا تروق لكثيرين ممن يتحدثون بمنطق الإقصاء ولغة التخوين ويصنفون الآخرين إلى فسطاطين، لكن ذلك لا يثير اهتمام الأميركيين، فهم يبحثون عن صفقة بمنطق السياسة ولغة الأرقام، ولا تعنيهم كثيرا الأبجدية الموتورة والخطابية والمتشنجة في منطقتنا.