عبدالله بن بجاد العتيبي

العلاقات السعودية- العراقية ذات جذور ضاربٍة بأطنابها في التاريخ القديم والحديث، وفي التاريخ الحديث كانت السعودية تحتفظ بعلاقاتٍ مميزةٍ مع الأنظمة المتعاقبة على سدّة الحكم في العراق، من العهد الملكي إلى العهد quot;البعثيquot; مع كل ما تخللها من انقلابات وتغيرات داخلية تخصّ العراق وشعبه.


بعد 2003 اختارت السعودية والدول العربية كفّ يدها عن العراق، تتمنّى له الخير والاستقرار والوحدة ولكنّها لا تتدخّل في شؤونه الداخلية بأي شكلٍ كان، ولكنّ غير السعودية من الدول الإقليمية، جاسوا خلال ديار العراق ونشطوا بخيلهم ورجلهم ومالهم للتدخل في الشأن العراقي وتأليب أطرافه ضد بعضها، ونشر الفساد والاضطراب بين شرائح المجتمع العراقي، سعياً للاستحواذ على صناعة القرار فيه والتأثير على حاضره ومستقبله.

اليوم تعود السعودية بقوّةٍ للمشهد العراقي عبر المبادرة الملكية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين للفرقاء العراقيين للقدوم للرياض بعد حج هذا العام للتشاور في حاضر العراق ومستقبله، بدعمٍ كاملٍ من السعودية لتجاوز المشكلة السياسية في العراق التي تلت الانتخابات قبل ما يقارب الثمانية أشهرٍ وسببت فراغاً سياسياً خطيراً كانت ترعاه وتصرّ عليه بعض الدول الإقليمية التي تلطّخت أياديها بدماء العراقيين، فخرّبت ما شاء لها التخريب، وأعاقت كل جهود التسوية أيما إعاقة، ووضعت العصي في دواليب الحراك السياسي العراقي، لا لشيء إلا لتقول للعالم إنّني صاحبة القول الفصل في الشأن العراقي، خدمةً لمصالحها الوطنية لا لمصلحة العراق.

يرى بعض المراقبين أن الدول العربية قد تأخرت في دعم العراق ومساندته مقارنةً بما فعلته دولٌ إقليمية أخرى، ولكنّ السعودية ترى أنّها تدخّلت بهذه المبادرة الملكية في الوقت المناسب، حرصاً على العراق وشعبه، ولكن حتى لو تنزّلنا جدلاً مع هذا الرأي وفيه من الصحة ما فيه، فمن الصحيح أيضاً أنه quot;أنْ تأتي متأخراً خير من ألا تأتيquot;، ولم يزل بالإمكان تدارك الكثير مما فات بالكثير مما يأتي، وقد استفادت السعودية من هذا التأخر بإثبات نفسها كجهةٍ مستقلةٍ تقف على مسافة متساوية مع جميع العراقيين وكتلهم السياسية مما يمنحها مصداقية أكبر في مبادرتها الكبيرة.

السعودية بثقلها المعروف عربياً وإسلامياً وعالمياً قادرة على مساعدة العراقيين على الوصول لحلٍ لحالة الانقسام والتشرذم والشتات التي يعيشها العراق وبالأخص قادته السياسيين، الذين لم يستطيعوا لأشهرٍ متواليةٍ إيجاد مخرجٍ من عنق الزجاجة الذين وجدوا أنفسهم محصورين فيه، بناءً على عدة عوامل منها التدخلات الإقليمية القوية في الشأن العراقي وفرض بعض المواقف على بعض الفرقاء بالقوّة، ومنها الطموحات الشخصية لبعض القادة السياسيين التي لا تقيم اعتباراً لمصلحة العراق شعباً ودولةً، ومنها سيطرة غشاوة تشكلها هواجس طائفية وإثنية على كثيرٍ من القادة تمنعهم من صواب الرؤية وصحة القرار.

لقد كانت سياسة السعودية الخارجية على مدى عقودٍ تسعى لرأب الصدع وتيسير الحلول ودعم الائتلاف والتوافق بين كثيرٍ من الفرقاء في العالم العربي والعالم الإسلامي، ويحدّثنا التاريخ القريب أنّ الفرقاء اللبنانيين أوصلوا بلادهم إلى حربٍ أهليةٍ طاحنةٍ أكلت أخضر لبنان ويابسه، وتدخّلت السعودية ودعت الفرقاء وكان الطائف واتفاقه الذي حفظ للبنان دولته ووحدته واستقراره، ويحدثنا ndash;كذلك- أنّ الفرقاء الفلسطينيين قد انقسموا وتشرذموا فجمعتهم السعودية وألّفت بين قلوبهم فتعاهدوا في اتفاق مكّة على الائتلاف، ولكنّ بعضهم نكث بوعده ونقض عهده لاحقاً.

ليست السياسة السعودية الخارجية مسؤولةً عن نجاح هذا الاتفاق أو ذاك، ولا عن استمرار هذه المعاهدة أو تلك، إنّ دورها الذي نجحت فيه مراراً هو جمع الفرقاء والتوصّل لصيغةٍ تغلّب منطق الحوار والمصلحة على منطق الصراع والإفساد، وفيما بعد فعلى الفرقاء أنفسهم أخذ زمام المبادرة والسير على الطريق، لقد جمعت الفرقاء الأفغان من قبل في مكّة، وجمعت الفرقاء العرب من بعد في القمة الاقتصادية في الكويت، والشواهد كثيرة.

إنّ المبادرات السعودية لا تجبر أحداً على ما لا يريد، ولكنّها تسعى لخلق مناخٍ ودّيٍ يجعل الحلول السلمية والمصلحية لكل بلدٍ مقدمةً على غيرها، وذلك عبر تجسير الفجوات بين الفرقاء، وردم الهوة بين المتنازعين، ورسم quot;خريطة طريقquot; لحلول أكثر إيجابية وأسهل منالاً، وأوفر منفعةً للبلاد والعباد.

حتى كتابة هذه السطور، فإن الاستجابة العراقية تبدو مشجعةً لإنجاح المبادرة، فقد رحّبت بالمبادرة عددٌ من الكتل السياسية المهمة في العراق، منها التيّار quot;الصدريquot; وquot;القائمة العراقيةquot; وبعض الأكراد وكذلك quot;ائتلاف دولة القانونquot; -وإن بشيءٍ من التحفّظ- ومن المتوقع أن تستجيب بقية الكتل للمبادرة الملكية خلال الأيام القادمة.

ثمة حضور عالمي متنامٍ للسعودية عبر عدة مسارات، ففي مسار التدخل الإصلاحي والتوفيقي لعددٍ من الدول العربية والإسلامية تبنّت السعودية العديد من المبادرات منها ما سبق ذكره من السعي لإصلاح الخلاف العربي- العربي عبر مبادرة المصالحة في الكويت ونحوها، وفي المسار الديني والثقافي لم تزل السعودية تتبنّى الحوار كمفهوم ومبدأ عامٍ ترعاه وتدفع باتجاهه عبر مبادراتٍ معروفة للملك عبدالله داخلياً وخارجياً تمثلت في مشاريع ترعاها السعودية وتعتني بنشرها، وفي المسار الأمني ما فتئت السعودية تحارب الإرهاب بشكلٍ متقنٍ وقويٍ كان من نتائجه القضاء على تنظيم quot;القاعدةquot; في السعودية ما دفعه للجوء لليمن للتخطيط لعملياته وتجنيد أفراده، وفي ذات السياق استطاعت السعودية اختراق التنظيم في اليمن، ومعرفة الكثير من التفاصيل عن خططه وعملياته، ما مكّن السعودية من اكتشاف العملية الأخيرة للتنظيم في استهداف بعض المواقع الأميركية في شيكاغو، وتقديمها معلوماتٍ دقيقةٍ مكّنت من إفشال هذه العملية الخطيرة التي كانت ستعيد quot;القاعدةquot; للواجهة من جديد.

أحسب أنّ من الواجب اليوم أن تتحد دول الاعتدال العربي، وتعيد المكانة لتأثيرها الإقليمي والدولي، عبر مبادراتٍ كهذه المبادرة الملكية تجاه العراق، أولاً للحدّ من المشكلات القائمة في كثيرٍ من الدول العربية، وثانياً لمنع التدخلات الإقليمية الأخرى الساعية للتخريب لا للإصلاح، وثالثاً لبناء مستقبل أفضل للمنطقة ككل، مستقبلٍ يقدّم الوعي والحوار والإصلاح كخيارٍ أوّلٍ.

ثمة وعي سياسي سعودي بأن حلّ المشكلات لا يكمن في تجاهلها وغض الطرف عنها، بل في الاعتراف بها وإحسان التعامل معها عبر معرفة خباياها ودوافعها ومسبباتها، وعبر إدراك طموحات الفرقاء وغايات المختلفين، ومن ثمّ يبدأ الجهد في التوفيق والتقريب وصولاً لأفضل صيغ التوافق وأكمل الحلول.

إنّ عودة السعودية للعراق مؤشر جدير بالملاحظة والرصد، فهو يشير إلى أنّ السعودية لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه التدخلات الإقليمية في الدول العربية، وينبغي أن تكون معها في هذا التوجّه كل الدول العربية الحريصة على استقرار المنطقة، وينبغي أكثر لتحقيق هذا أن تكون كلّ السياسات الخارجية السعودية منتظمةً في سياقٍ واحدٍ يكمّل بعضه بعضاً، ما يزيد من فرص النجاح ويعزّز المكانة الإقليمية.