سعد محيو

أُريق كثير من الحبر وسُكِب الكثير من الدمع على ضحايا مجزرة حي الكرادة في بغداد، كما أُريق الكثير من الحبر الإضافي على الاعتداءات المفاجئة بقذائف الهاون والعبوات الناسفة قبل يومين، على الأحياء السكنية النصرانية في العاصمة العراقية التي أدت إلى دفع العديد ممن تبقى من المواطنين المسيحيين إلى طرق أبواب السفارات طلباً للهجرة .

لكن السؤال بقي سؤالاً: من الأطراف الحقيقية التي اتخذت قراراً ldquo;استراتيجياًrdquo; على مايبدو بrdquo;تصفيةrdquo; مسيحيي العراق وقبلهم مسيحيي فلسطين، والضغط على الأقباط لتفجير فتن طائفية تضع أتباع أقدم كنيسة في التاريخ بين خياري النحر أو الانتحار؟ وقبل هذا وذاك، من تلاعب إلى درجة الغثيان بمسيحيي لبنان منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى العقد الأخير منه، فأغرقهم بالسلاح والوعود ثم تركهم يغرقون ويختنقون بأنفاسهم؟

تنظيم متطرف يطلق على نفسه لقباً إسلامياً، أعلن مسؤوليته عن هجمات بغداد وحملات مصر، وهدد بمواصلة الحملة ldquo;حتى النصرrdquo; على العرب المسيحيين . لكن النصر على من؟ على طائفة يعود تاريخها العربي في هذه الأرض إلى ماقبل الديانتين المسيحية والإسلامية؟ إلى أقلية لا ناقة لها ولا جمل في كل الصراعات على السلطة التي يشتعل أوراها هذه الأيام في طول المنطقة العربية وعرضها؟ ثم: هل ldquo;الحملة حتى النصرrdquo; على النصارى العرب، ستُغيّر ولو واحداً في المليون من الإنش في موازين القوى بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي؟

حتى الآن، مازلنا نتحدث عن الجوانب المأساوية التي تقع على رأس النصارى العرب، لكن آن الأوان للحديث عن السقطة التاريخية الكبرى التي سيهوي إليها العرب المسلمون، في حال تواصلت حملة استئصال الوجود المسيحي في العالم العربي .

المؤرخ الكبير كمال الصيلبي كان أول من دق ناقوس الخطر في هذا المجال، مُحذّراً من أن ldquo;زوال النصارى العرب، لن يُبقي العرب عرباً على أرضهم التاريخية بالمعنى الكياني الوجودي المطلق، ولن تبقى في أي مكان من العالم كينونة عربية قائمة بذاتها ولاتتصف إلا بعروبتهاrdquo; .

بالطبع، لم يكن الصليبي يقصد هنا أن العرب المسيحيين يستأثرون بفضل تأسيس القومية العربية الحديثة، على رغم أنهم لعبوا دوراً مهماً في ذلك إبان حقبة النهضة في أوائل القرن العشرين . ماكان يقصد هو الإشارة إلى العمق التاريخي الحضاري الذي وفّره هؤلاء للعروبة، حين أسسوا الممالك المستندة إلى الهوية العربية قبل ستة قرون من ميلاد الإسلام، وحين أتبعوا ذلك في العصور الحديثة بتزعم المشروع الضخم الخاص بإحياء اللغة العربية وتحديثها .

علاوة على ما أشار إليه الصليبي، ثمة خسارتان كبريان ستلحقان بالعرب المسلمين في حال ldquo;انقرضrdquo; أشقاؤهم النصارى: الأولى، أنهم سيفقدون الفئة الاجتماعية التي لعبت ولاتزال، دور القوة الحديثة والتحديثية الأبرز في العلوم والأدب والفلسفة واللغة منذ القرنين التاسع والعاشر العباسيين حتى بدء الاستفاقة التعليمية العربية الإسلامية في منتصف القرن العشرين . والثانية، أن اختفاء العرب النصارى سينسف واحداً من أهم جسور حوار الحضارات، وسيمكّن الأصوليين الغربيين من رسم خطوط صدام حضارات دموي لاينتهي بين الطرفين الإسلامي والغربي .

الخَطبُ، إذاً، كبير، وهذا مايجعل سؤالنا الأوّلي كبيراً أيضاً: من الأطراف الحقيقية التي اتخذت القرار ldquo;الاستراتيجيrdquo; ضد النصارى العرب، وبالتالي ضد الهوية العربية؟