عبد الزهرة الركابي

القمة الأخيرة لحلف الأطلسي (الناتو) التي عقدت في لشبونة في الفترة الأخيرة، أفصحت عن تبني هذا الحلف لمفهوم استراتيجي جديد، يحدد التحرك العسكري للسنوات العشر المقبلة، عبر الاتفاق على تطوير نظام دفاعي مضاد للصواريخ يغطي الأراضي الأوروبية وأمريكا، كما تبنت القمة عقيدة عسكرية تنهل من الخطط الأمريكية في القيام بحروب خارج أراضي الدول الأعضاء في الحلف، كما هو متمثل في مشاركة الأطلسي في حرب أفغانستان، أو كما جاء في إعلان الأمين العام للحلف أندرس راسموسن الذي أبدى استعداد الحلف للمساهمة في مراقبة اتفاق السلام في الشرق الأوسط إذا حصل الاتفاق وطلبت منه الأمم المتحدة ذلك .

الواضح أن الأطلسيين وبعد نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، راحوا يبحثون عن مفهوم جديد، لاسيما أن الحلف أنشئ لمواجهة حلف وارسو الذي كان يضم دول المنظومة الاشتراكية، وبما أن المنظومة انهارت وانهار معها حلفها العسكري، وهو ما يعني زوال الخطر السوفييتي عملياً، الأمر الذي جعل حلف الأطلسي يفتش عن دور جديد، كي يجعل لوجوده مبرراً في العالم، بعدما انتفت حاجته، على الرغم من أن دول أوروبا الشرقية التي كانت في السابق تدور في الفلك السوفييتي، والتي انضمت إلى حلف الأطلسي بغرض حمايتها من التهديد الروسي حسبما تدعي، مازالت تثير مثل هذه الهواجس، على اعتبار أن روسيا هي وريثة الاتحاد السوفييتي السابق أو هي تمثل البقية الباقية منه، وربما تكون عملية تحسين العلاقات مع روسيا التي يحرص عليها الحلف في مجال التنسيق والتشاور في القمة المذكورة أو في غيرها، هي من باب طمأنة هواجس دول شرقي أوروبا في هذا الجانب، خصوصاً أن راسموسن قد أكد سعي الحلف إلى إقامة تعاون مع روسيا ومع شركاء أوروبيين أطلسيين آخرين في مجال الدفاع المضاد للصواريخ .

وإذا كانت دول أوروبا الشرقية مازالت غير مطمئنة إلى السياسة الروسية، وهي طالما دعت الحلف إلى أن يتخذ سياسة متشددة حيال موسكو، فإن الأخيرة رفضت المشاركة في الدرع الصاروخية حتى لو كانت موجهة ضد إيران، حيث تشترط أن يتم التعاون بينها وبين الأطلسي على مراحل، ومن خلال ربط منظومتي الإنذار المبكر الروسية والأطلسية ببعضهما، ناهيك من اشتراطها أن يكون أصبع الضغط الاستراتيجي لاعتراض الصواريخ مشتركاً، واللافت أن ldquo;أصبع الضغط الاستراتيجيrdquo; المشترك هو أيضاً أحد مطالب تركيا إذا ما أراد الحلف إقامة الدرع الصاروخية على الأراضي التركية، وتركيا في هذا الجانب تشترط أيضاً وعلى نحو خاص عدم حصول ldquo;إسرائيلrdquo; على المعلومات التي ستحصل عليها محطات الإنذار المبكر ورادارات التنصت في القواعد الأطلسية المنتشرة في تركيا .

قد يكون المفهوم الجديد وفق ما يرتئيه الحلف غير واضح للمراقبين أو حتى لبعض أعضائه، من واقع أن الحلف انتهى ولم يبق سوى الحلفاء الذين انضم إليهم حلفاء جدد، وهذا البعض يتعامل بمنطق التحالف وليس بمنطق الحلف، إذ إنه يرى أن الحلف انتهى بانتهاء الخطر السوفييتي، وهذا الاختلاف في الرؤى داخل الأطلسي، يعكس تقاعس هؤلاء في المشاركة بالنفقات وكذلك في الإمداد والجنود .

هذا المفهوم الجديد يبدو واسعاً ومطاطاً في التمني الأمريكي الذي يشترك فيه أيضاً بعض الغربيين، في أن يتحول حلف الأطلسي إلى مؤسسة عالمية وبمنزلة شرطة دولية كما هو مطبق من قبل الحلف في أفغانستان وربما في مناطق أخرى من العالم مستقبلاً، بيد أن بعض الدول الغربية لا تجاري التمنيات الأمريكية، وهي ترى أن جعل حلف الأطسي بمثابة الشرطي الدولي غير مقنع وليس هناك من ضرورة لهذا التطوير في مهام الحلف، في وقت أن هناك قوى كبرى وغير غربية تريد لها مكانة على الساحة الدولية .

ولهذا، فإن المفهوم الاستراتيجي الجديد، لم يكن في حقيقته سوى عملية إعادة تعريف للعلاقات الأمريكية الأوروبية، والسبب هو أن أمريكا لم تعد القوة المعروفة سابقاً، أي أنها لم تعد فوق الآخرين، خصوصاً أن اهتمامها بأوروبا بات يتقلص ولن يضاهي اهتمامها بآسيا أو مناطق أخرى، وبالتالي تظل أمريكا أدرى بمصلحتها، في حين تريد أغلب الدول الأوروبية الإبقاء على حلف الأطلسي كستار للحماية الأمريكية، بيد أن أمريكا راحت تُظهر للأوروبيين موقف الدولة غير الحامية وغير المستعدة لفعل كل شيء، وإذا ما أرادوا الحفاظ على علاقتهم مع أمريكا، حري بهم المشاركة في الحلف عبر المزيد من الأموال والجنود، الأمر الذي لا يستجيب له الأوروبيون .