محمد السعيد ادريس

كثيراً ما يبدو الخط الفاصل بين من يعملون لصالح إنقاذ لبنان من الفتنة والحرب الأهلية وبين من يدفعون بالأحداث دفعاً نحو هذا المصير، خطاً رمادياً باهتاً ومثيراً للقلق، ففي كل مرة تلوح في الأفق بادرة توافق أو حلول سياسية لما يمكن أن يسمى بrdquo;القضايا التفجيريةrdquo; خاصة قضية ldquo;القرار الظنيrdquo; الخاص بالمحكمة الدولية التي تحقق في جريمة اغتيال رفيق الحريري، وقضية شهود الزور، في سباق ماراثوني للتوفيق بين هدفي الإنقاذ في لبنان: العدالة والاستقرار، سريعاً ما يجري دفع الأحداث في الاتجاه المضاد تماماً لإثبات استحالة تحقيق هذا التوافق بين الهدفين .

لقد كان مثيراً للاهتمام تسريب معلومات إيجابية حول ما يجري من محادثات إقليمية تعتمد على ldquo;اتفاق سوري سعودي بمباركة إيرانيةrdquo;، على خطوط عريضة يمكن أن تحقق في النهاية هذا التوافق ldquo;الاستحاليrdquo;، أو الذي يبدو مستحيلاً بين هدفي العدالة والاستقرار في لبنان، ووفق أكثر من صيغة مقترحة للحل تثبت، في ذاتها، توافر قدر لا بأس به من المرونة والتفهم لمواقف كل طرف وحسن النوايا .

أبرز ما في هذا التوافق تلك الأسس التي كانت تبدو مستحيلة، أو التي حاول الكثيرون تأكيد استحالتها لاستبعاد أي فرصة للتوافق وفرض سيناريو الفتنة والتفجير فرضاً من منطلق وصم حزب الله والقوى الداعمة له لبنانياً وإقليمياً بتهمة تهديد الاستقرار لوأد العدالة واغتيالها هروباً من الالتزام باستحقاقات القرار الظني للمحكمة الذي جرى عمداً تسريب أهم مضامينه والتي تتهم قيادات في حزب الله بمسؤولية الاغتيال .

من أهم هذه الأسس التسليم بعدم إلغاء المحكمة، وعدم القدرة على التدخل في القرار الظني، وإسقاط مبدأ اللجوء إلى العنف أو حتى التلويح به، مع إشارتين مهمتين تؤكدان جدية نوايا التوافق .

الإشارة الأولى تتعلق بالحرص على تأجيل إعلان القرار الظني ربما إلى شهر مارس/ آذار من العام المقبل وليس إلى منتصف ديسمبر/ كانون الأول المقبل، أما الإشارة الثانية فتتعلق بالتمييز المنسوب لوزير الخارجية السوري وليد المعلم بين القرار الظني والقرار الاتهامي وهو تمييز حرص على أن يقول إن ما قد يتضمنه القرار الظني من اتهامات لن يكون آخر المطاف، ولا يعني الإقرار بهذه الاتهامات، على أساس أن القرار الظني الذي سيصدره المدعي العام للمحكمة الدولية دانيال بلمار يقتضي موافقة قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرنسيسن الذي يمكنه أن يأمر بتعديلها أو يرد الاتهام بعد إجراءات تدقيق وتمحيص، ما يعني وجود إمكانية لمنع أو للحد من الشطط في مضامين ونصوص القرار الاتهامي .

هذه المعلومات بقدر ما حققته من قدر لا بأس به من التفاؤل، فجرت غضب تيار الفتنة في داخل لبنان وخارجه، الذي يعمل في اتجاهين: الأول رفض أي مساومة أو تأجيل لإعلان المحكمة الدولية قرارها الظني وما يتضمنه من اتهامات بحق قيادات في حزب الله بهدف ضرب شرعية الحزب والمقاومة والنيل من سلاحه، وإخراجه من المعادلة السياسية الداخلية لفرض معادلة سياسية بديلة تجعل من لبنان محمية أمريكية ldquo;إسرائيليةrdquo; وتفكيك رابطة التحالف الإيراني السوري استعداداً لمواجهة أشمل مع كل من سوريا وإيران تخدم التوجه المحموم نحو فرض تسوية للصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; تجمع بين التوسع الاستيطاني ليشمل معظم أنحاء الضفة الغربية وقد يمتد إلى فرض مشروع ldquo;الأردن الوطن البديل للشعب الفلسطينيrdquo; وبين فرض سيناريو تهويد الدولة الصهيونية . والثاني التهديد بفرض سيناريو التفجير من الداخل توطئة لتدخل ldquo;إسرائيليrdquo; قوي لاستئصال وجود المقاومة نهائياً من لبنان .

هذا الغضب عبّر عن نفسه عبر العديد من الوسائل، كان أبرزها الترويج الإعلامي والسياسي المكثف لسيناريوهات مختلفة تؤكد استعداد حزب الله للسيطرة العسكرية على كل لبنان عند إعلان القرار الظني بمضامينه التي جرى تسريبها، ثم الترويج لمعلومات جديدة تكشف عن تورط حزب الله في جريمة اغتيال الحريري بهدف تسريع إعلان القرار الظني وعرقلة أي تفاهمات أو توافقات على حل لتناقض أو لصعوبة تحقيق هدفي العدالة والاستقرار . جرى هذا الترويج مرتين، الأولى بالإعلان عن فيلم وثائقي من ثلاث حلقات تم إعداده للعرض في تلفزيون ldquo;بي .بي .سيrdquo; البريطاني، ثم صدور قرار بتأجيل هذا العرض لأجل لم يحدد بعد تفادياً للحيلولة دون تورط المحطة البريطانية في أي تواطؤ يستهدف ldquo;حزب اللهrdquo;، وتحسباً لأية ردود فعل غير محسومة العواقب، أما الثانية فقامت بها محطة ldquo;سي .بي .إسrdquo; الكندية (التلفزيون الكندي العام) أفادت بأن محققين من الأمم المتحدة وضابطاً لبنانياً اغتيل عام 2008 توصلوا إلى أدلة قوية على أن عناصر من ldquo;حزب اللهrdquo; نفذوا عملية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في فبراير/ شباط ،2005 وأن لجنة التحقيق الخاصة بلبنان تجاهلت بعض الشكوك التي كانت تحيط برئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي وسام الحسن .

وإذا كان الترويج لوجود مخطط لدى حزب الله للسيطرة العسكرية قد استهدف تهيئة الرد على هذا المخطط سواء من جانب ldquo;إسرائيلrdquo; بتوفير المبرر الكافي للتدخل أو من جانب أطراف داخلية لبنانية، فإن تعمد نشر تلك الاتهامات استهدف الضغط على المحكمة للتعجيل بإعلان القرار الظني ووضع الحكومة اللبنانية وجمود التوافق السعودي السوري الإيراني أمام طريق مسدود، أو أمام الأمر الواقع: فإما الرضوخ لقرار المحكمة والقبول بإدانة حزب الله بكل ما هو متوقع من تداعيات لذلك، وإما دفع حزب الله دفعاً وتوريطه في عمل عسكري يكون بمثابة ldquo;نقطة الصفرrdquo; لفرض سيناريو الفتنة والحرب التي تعد لها ldquo;إسرائيلrdquo; منذ فترة طويلة وفقاً لتأكيدات رئيس أركان الجيش ldquo;الإسرائيليrdquo; غابي اشكنازي الذي وضع لبنان بين خيارين، إما الفتنة والحرب الداخلية، وإما أن تقوم ldquo;إسرائيلrdquo; بالمهمة وتضع نهاية لما يسميه بrdquo;خطر حزب اللهrdquo; والخطر الإيراني .