محمد السعيد ادريس

بديهيات كثيرة تحكم إدارة التفاعلات الإقليمية والدولية على أرض وطننا العربي عادة ما تظل غائبة، أو مغيّبة، عن العقل السياسي العربي في تعامله، ولا نقول في إدارته، مع هذه التفاعلات، ربما تكون هناك أسباب كثيرة لذلك، لعل من أبرزها أن العرب مغيّبون عن إدارة هذه التفاعلات أو المشاركة في إدارتها، وهذا أيضاً مرجعه أسباب كثيرة من بينها تدني الوزن النسبي للقوة العربية، إما بسبب تبعثرها أو بسبب ضعفها، مقارنة بأوزان القوى الأخرى الدولية والإقليمية المشاركة في هذه التفاعلات .

من هذه البديهيات أن الدخول الأمريكي إلى العراق (الغزو والاحتلال) لم يكن لمجرد إسقاط حكم صدام حسين أو القضاء على أسلحة الدمار الشامل العراقية، ولكن كانت هناك أسباب أخرى كثيرة أهم، ليس من بينها بالطبع إقامة حكم ديمقراطي في العراق وفقاً لمزاعم الأمريكيين، في مقدمتها إحكام السيطرة الأمريكية على ثروة العراق النفطية الهائلة لتأمين إنقاذ الاقتصاد الأمريكي من أزماته، كشرط لإبقاء القوة الأمريكية قادرة على السيطرة والهيمنة العالمية، إلى جانب الهدف الأهم وهو إعادة هندسة الخرائط السياسية لإقليم الشرق الأوسط، وفي قلبه وطننا العربي وإعادة تشكيله وفق خرائط جديدة تخدم مصالح المشروع الأمريكي والصهيوني، الذي تختلف قواعده عن القواعد القديمة التي رسمت خرائطه بعد الحرب العالمية الأولى على أيدي البريطانيين والفرنسيين، وأدت إلى ظهور الكيانات والدول الحالية . وكان من الطبيعي أن يرتبط بهذه البديهية المهمة بديهية أخرى، هي أنه طالما أن ldquo;إسرائيلrdquo; معنية بهدف إعادة هندسة الخرائط السياسية في المنطقة، فإنها حتماً كانت طرفاً أساسياً (في التخطيط والتنفيذ) لعملية غزو العراق واحتلاله، وهذا ما أكدته عشرات الوثائق والاعترافات الأمريكية وrdquo;الإسرائيليةrdquo; .

هذه البديهية غابت، ولم يعر العرب وبعض العراقيين الذين شاركوا الأمريكيين في إدارة ما أسموه ldquo;العراق الجديدrdquo; أي اهتمام لتداعياتها . والآن، ومع ما حدث من انسحاب أمريكي جزئي من العراق، تفرض بديهية ثالثة نفسها، يبدو أنها هي الأخرى غائبة عن العقل السياسي والاستراتيجي العربي، وهي أن هذا الانسحاب الأمريكي بقدر ما سوف يؤثر في النفوذ الأمريكي سيؤثر أيضاً في المصالح ldquo;الإسرائيليةrdquo;، وأن أي ترتيبات أمريكية لاحتواء الآثار السلبية لهذا الاحتلال ستكون ldquo;إسرائيلrdquo; حتماً طرفاً أساسياً فيها .

السؤال المهم في هذا الخصوص هو: ما هي هذه الآثار السلبية للانسحاب الأمريكي من العراق بالنسبة لrdquo;إسرائيلrdquo; وكيف يفكر ldquo;الإسرائيليونrdquo; في معالجة هذه السلبيات؟

فالمؤكد أن الانسحاب الأمريكي من العراق ستكون له عواقب ليست إقليمية فحسب، وإنما دولية أيضاً، خصوصاً إذا تزامن هذا الانسحاب وتزامنت تداعياته مع انسحاب أو تراجع أمريكي في أفغانستان، وأول من سيدفع أثمان هذا كله هو النفوذ الأمريكي والمكانة الأمريكية . وهذا الثمن سيفرض نفسه بقوة في إقليم الشرق الأوسط، ومن ثم ستكون ldquo;إسرائيلrdquo; طرفاً معنياً قبل أي دولة أخرى في المنطقة بهذه التداعيات .

من أبرز تداعيات الانسحاب الأمريكي الفشل في تحقيق الهدف الاستراتيجي الخاص بإعادة ترسيم الخرائط السياسية انطلاقاً من القناعة بسوء الخرائط القديمة، والعمل على أخذ الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية كأساس لرسم الخرائط الجديدة وإقامة نظام جديد يقوم على دويلات طائفية وعرقية وإثنية بديلة عن الدول القائمة في المنطقة . وهذا الفشل يتضاعف مع ظهور نتائج أخرى للغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، ثم الانسحاب منه، وهو أن إيران كانت المستفيد الأبرز من هذا كله، وأنها إذا استطاعت فرض نظام موال لها في العراق فإنها سيكون بمقدورها أن تتواصل أولاً مع الحليفين السوري واللبناني برياً عبر العراق، وفرض واقع استراتيجي جديد، وأن يكون بمقدورها أن تكون جواراً للسعودية وأن تمتد إلى الأردن ومنه تصبح في مواجهة برية مباشرة مع ldquo;إسرائيلrdquo; .

يدرك ldquo;الإسرائيليونrdquo; هذه التداعيات ويتحسبون لها في ظل قلق ليس مبالغاً فيه، من وجهة نظرهم، بالنسبة للجوار مع الأردن الذي يرونه الحلقة الأضعف .

هذا الإدراك ldquo;الإسرائيليrdquo; للمخاطر الجديدة المحتملة أكده الجنرال عاموس يادلين رئيس الاستخبارات العسكرية السابق في حفل توديعه الرسمي بعد انتهاء عمله الرسمي وخدمته في الجيش . ففي الوقت الذي حرص فيه يادلين على التنويه بتعاظم قوة الردع ldquo;الإسرائيليrdquo; عن أي وقت مضى، إلا أنه حرص على أن يحذر من الانخداع بالهدوء السائد حالياً، نظراً لأن أعداء ldquo;إسرائيلrdquo; يعاظمون قوتهم ويتسلحون . وأكد يادلين أن ldquo;الخطر الأساس اليوم هو إيران، ليس فقط بسبب مشروعها النووي، فإيران تطلق أذرعاً أخطبوطية لدعم كل من يعمل ضد ldquo;إسرائيلrdquo;، وفي المواجهة المقبلة هناك احتمال أن تندلع النيران في أكثر من جبهة واحدة وتنقلب تل أبيب إلى جبهةrdquo; .

يادلين كان حريصاً أيضاً على أن يؤكد أن ldquo;هناك صراعاً يحاول المساس بوجود ldquo;إسرائيلrdquo;، وكان حريصاً في الوقت ذاته على أن يؤكد أن عملاً مضاداً يجب القيام به لمواجهة كل هذه الأخطار والتداعيات .

وإذا كانت هناك محاولات للضغط على واشنطن لمراجعة قرار الانسحاب من العراق وتأجيله، وإذا كانت أيضاً هناك ملامح قبول أمريكية لإرجاء الانسحاب الكامل على نحو ما جاء على لسان وزير الدفاع روبرت غيتس، الذي ألمح إلى إمكانية تمديد حملة انسحاب القوات الأمريكية من العراق إلى ما بعد نهاية عام 2011 ldquo;إذا ما أراد العراقيونrdquo;، وإذا كانت هناك مطالبات عراقية تتصاعد بهذا الخصوص وبالذات من جانب القيادات الكردية، فإن الاهتمام ldquo;الإسرائيليrdquo; يتجه أيضاً إلى مراجعة العلاقة مع الولايات المتحدة على أسس تحالفية جديدة بدت معالمها في صفقة الرئيس أوباما لإقناع ldquo;إسرائيلrdquo; بقبول تمديد تجميد الاستيطان في الضفة الغربية ثلاثة أشهر ومواصلة التفاوض مع الفلسطينيين .

هذا التوجه يراه ldquo;الإسرائيليونrdquo; مصلحة أمريكية كما هو مصلحة ldquo;إسرائيليةrdquo;، فمع الخروج الأمريكي من العراق وانكشاف نفوذ واشنطن لن يكون هناك من سيملأ هذا الفراغ أو من في مقدوره ملء هذا الفراغ غير ldquo;إسرائيلrdquo;، وهذا يفرض على واشنطن أن تعتمد ldquo;إسرائيلrdquo; أداتها مجدداً للدفاع عن مصالحها . كما أنه أيضاً مصلحة ldquo;إسرائيليةrdquo;، فمع فشل فرض نظام إقليمي بديل تقوده ldquo;إسرائيلrdquo; ومع الانسحاب الأمريكي من العراق لم يعد أمام ldquo;إسرائيلrdquo; من ضمانة للوجود في ظل التحديات الجديدة غير الضمانة الأمريكية، فهل يعي العرب معنى هذه التطورات الجديدة؟