الوراري وبوحمالة، على هامش أمسيات فاس الشعريةquot;/ مايو2009م.

بوحمالة يبحث في مشروعٍ شعريٍّ طليعيّ، ويصف روّاده بquot;أيتام سومر!

عبداللّطيف الوراري:صدر للناقد والمترجم المغربي بنعيسى بوحمالة دراسته اللمّاحة quot;أيتام سومر: في شعريّة حسب الشيخ جعفرquot; في جزئين منفصلين (الأول في 224 ص.، والثاني في 431 ص.)، التي تناول فيها، بالتوالي، جيل الستينيات في الشعر العراقي المعاصر، وتجربة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر بوصفه أبرز الأصوات الشعرية داخل هذا الجيل المائز في تجربة الشعر العربي الحديث برمّتها.
يرى الناقد أنّه من الضروري، قبل قراءة شعر حسب الشيخ جعفر، أن تُقارب التجربة الشعرية الكلّية لجيل الستينيّات العراقي من حيث مرتكزاتها التصوُّرية والإبداعية من جهةٍ أولى، ومن حيث مؤشِّرات تطويرها أو تكريسها للمنجز الشعري الذي أرساه الروّاد العراقيون من أمثال السياب ونازك الملائكة والبياتي. وقد اعتمد الناقد، للنظر في ذلك واختباره، على مفهومين إجرائيّيْن أساسيين هما: مفهوم quot;الجيلquot;، ومفهوم quot;القطيعةquot;، على نحو يشخِّص الوضعية الفعلية والاعتبارية المحدِّدة لمجموعةٍ من الشعراء العراقيين المعاصرين الذين برزوا خلال عقد الستينيّات، وبالتّالي يُقيِّم طبيعة منجزهم الشعري والرُّؤياوي من جهة انقطاعه عن منجز شعريّة الريادة التي تأثَّر بها المجال الشعري العربي بأكمله. هكذا يتناول الناقد quot;سيرة جيل متألّقquot;، معتبراً أنّ quot;قتل الأب الرمزيquot; شكّلت، بالنسبة إليه، quot;طاقة تفعيل لمبدأ الاستخلاف الشعريquot;. ينقسم الجيل إلى مجموعتين: مجموعة quot;الداخلquot;، لأنّ شعراءها مكثوا في العراق، وفيهم سامي مهدي، وحميد سعيد، وحسب الشيخ جعفر، وعبدالرحمان طهمازي، وعبد الأمير معلة، وياسين طه حافظ، وآمال الزهاوي، وجان دمّو، وحميد المطبعي؛ وأما المجموعة الثانية فأطلق عليها مجموعة quot;الشتاتquot;، باعتبار أنّ شعراءها اختاروا مغادرة وطنهم العراق للإقامة في المهاجر الأوربية والأمريكية، وتضمّ كلّاً من فاضل العزاوي، وسركون بولص، وعبدالقادر الجنابي، وفوزي كريم، وجليل حيدر، وصلاح فائق، وصادق الصانع، ومؤيد الراوي، وأنور الغساني. وبرغم ذلك، فإنّ ما كان يجمع هؤلاء الشعراء أقوى مما يفرِّق بينهم، بحكم مواطنتهم العراقية وأقدارها العاصفة. فهم، من جهة أولى، ينتسبون إيديولوجيّاً إلى صفّ اليسار في شتّى شُعبه [البعثية، الشيوعية، الماوية، الغوارية الغيفارية]، مُوالين لقيمه وتحليلاته التي لم تكن لتسقطهم في وهم تغليب الإيديولوجي على الشعري، وبالتالي الانجرار إلى طمس الطاقة الشعرية للكتابة، بدعوى مراعاة الوضوح الإيديولوجي. ومن جهة أخرى، كانوا مهمومين بأسئلة أخرى مخالفة لأسئلة الروّاد، في ما يخصّ الإبداع، أو الوجود داخل وعي متقدّم بالمعرفة الشعرية، لا يعدم همّه التجريبي الّذي يتمثَّل في تشييد لغةٍ شعريّةٍ بِكْر، ونحت إيقاعاتٍ جديدة خارج المحظورات العروضية، والاعتناء بقصيدة النثر، والاحتفاء بالموضوع الشعري الجديد، والنزوع نحو بناء قصيدةٍ مركّبة متعدِّدة الأصوات واللّغات، عدا تمثُّل المرجع الشعري الغربي. وبما أنّ زمنهم كان مبعثاُ للخيبة واليأس، لم تكن أرواحهم المتطلّبة لينطلي عليها التفاؤل الرؤياوي الساذج، فكان طبيعيّاً أن تنزاح نصوصهم وتجاربهم الشعرية عن مدار الرُّؤيا التموزية، لتعانق رؤيات مضادّة بروميثيوسية، ونرسيسية، وأورفية.
هكذا دفع رعيل الشعراء الستينيّين بمشروعٍ شعريٍّ على درجة من الأهمية، وهو ما يشهد عليه منجز شعري يمثل قيمة مضافة للشعرية العربية المعاصرة، وفي هذا المنحى تبقى مجريات الشأن الشعري العراقي في أثناء الستينات جديرة بالتأمل، إذ يبدو الاقتدار الشعري المذهل الذي أعرب عنه شعراء هذا الرعيل، لكأنما هو تعبيرٍ لا واعٍ عن أحقيّة بغداد في مواصلة تحديث شعرية الريادة، حتّى وهم يحطّمون quot;أسطورة الأب الرمزيquot;، بمعاول المحبّة والعزاء.
ينطلق الناقد من فكرة لا نزاع حولها مفادها أن الشاعر حسب الشيخ جعفر هو أحد رواد الحداثة الشعرية منذ الستينيّات، ويحاول البرهنة على ذلك من خلال قراءة متنه الشعري على ضوء إشكالية الاستمرارية والقطيعة في الشعر العراقي الحديث. ولعل الأهمية الكبرى للكتاب تكمن في توسيع الناقد لحيّز التحليل فجاءت الإشكالية تلك قراءة في نموذج شعري يعبر عن تجربة حداثية واسعة شارك فيها جيل عراقي بكامله. إنّ حسب الشيخ جعفر، في نظر الناقد، يمثّل واحداً من ألمع شعراء الجيل و أكثرهم عمقا و حيويّة، وقد أمدّ الشعرية العربية المعاصرة، منذ وقت مبكّر، بجماليات فارقة في البناء الشعري، كالتدوير الإيقاعي، و تقنية الحكي الشعري، والإيهام الحلمي، أسطرة الوقائع والتوضّعات، والصدور عن رؤيا أورفية للعالم (نسبة إلى أورفيوس في الأسطورة الإغريقية)، بوصفها رؤيا قائمة على اعتناق 'اليأس والاستحالة والموت'، بديلاً عن الرؤيا التموزية (نسبة إلى تموز في الأسطورة السومرية) لجيل الرواد الذي آمن بالإمكان والانبعاث. ترتبط الرؤيا لدى الشاعر باليأس والقنوط والاستحالة، وبالموت أيضاً. ولا يعني ذلك أنّه يستبدل بالأسطورة السومرية أسطورة إغريقية، بل إنّ هذه الاستراتيجية الرؤيوية تهدف إلى تجاوز الرؤية السومرية وإشباعها كشفاً وتوكيدًا لمأساة الإنسان واغترابه ومحنته. ترافق ذلك الكشف الشعري من نمط الجملة الغنائية ـ البسيطة والعبور بتجربته الخاصة إلى ما يصطلح عليه الناقد بالجملة الشعرية الدرامية ـ المركبة.
لقد لاحت شعرية حسب الشيخ جعفر بأنّها مسكونة بهاجس القطيعة الشعرية وانفصالها عن الثوابت الأدائية لشعرية الريادة وآفاقها الرؤيوية. ذلك ما تبرزه أعماله الشعرية بدءاً من quot;نخلة الله 1969quot;، ومرورًا بـquot;الطائر الخشبيّ 1972quot;، وquot;زيارة السيدة السومرية 1974quot;، وquot;عبر الحائط.. في المرآةquot;، ومرورًا بـquot;في مثل حنو الزوبعة 1988quot;، وquot;جيء بالنبيين والشهداء 1988quot;، وquot;أعمدة سمرقند 1989quot;، وquot;كران البور 1993quot; وانتهاء بأعماله النثرية، وترجماته الشعرية. وسوف يقارب بوحمالة أعمال حسب الشيخ جعفر الشعرية الخمسة الأولى باعتبار أنّها تتعالق شعريّاً ورؤيويّاً ممّا يتيح لها الكشف عن خصوصية تجربة هذا الشاعر وموقعه داخل هويّة/ هويّات جيل بأكمله.
ينصب التحليل على المتن الشعري لحسب الشيخ جعفر واستنطاق بنائه الشكلي، من خلال البحث في الوحدات اللغوية والتركيبية والإيقاعية والمكانية والرمزية. فالدراسة لا تكتفي بوصف مكونات هذه الوحدات 'الشكلية' وطرق اشتغالها في المتن، بل ترقى بها إلى التأويل الدلالي لاستخلاص رؤية الشاعر إلى الكون والإنسان، وهي تبحث في العلاقات التناصية للمتن الشعري والبناء الدلالي، ثُمّ في العلاقة التركيبية بين الشعري والأسطوري والرؤياوي في متن الشاعر.
يستمدّ البحث عتاده المنهجيّ من دراسات المنهج السيميائي ــ الدلائلي كما تبلور في مجال الشعر مع الناقد الأمريكي ـ الفرنسي ميكائيل ريفاتير المتمحورة حول مفهوم الدّالية الذي يعنى بتوصيف و نمذجة السيرورة التكوينيّة المتنامية التي تمرّ بها القصائد المفردة أو المتون الشعرية العريضة، كما ينفتح على حقول منهجية أخرى مثل الأسلوبية ولسانيات التلفظ التي تأخذ بالاعتبار إنتاج الخطاب الشعري وغير الشعري في ارتباطه بالمتكلم والمتلقي وجميع السياقات الزمانية والمكانية والتناصية لإنتاج الكلام الشعري.
لقد قدّم لنا الناقد المغربي دراسة أكاديميّة رصينة تتخلّلها لغته المستقطرة ورؤيته النقدية النافدة، عن شاعر مهمّ مثل حسب الشيخ، وألقت ضوءاً ساطعاً على تجربته النوعيّة في حديث الشعرية العراقية خاصّة، والعربية عامّة. وأعتقد أنّ مثل الدراسات النقدية البعيدة عن الشحن الإيديولوجي والعاطفي أن تُعيد الحيوية إلى نقد الشعر العربي، بقدر ما تكشف للأجيال الشعرية الجديدة مثل تلك المشاريع الشعرية الخلّاقة التي نذر لها أصحابها من quot;أيتام سومرquot; أرواحهم المستهامة وأياديهم المرتجفة في محراب الشعر وأتونه. وهناك تجارب من جيل الستينيّات تستحقّ هي بدورها أن تُكشف ويُلقى عليها ضوء المعرفة النقدية، بما في ذلك تجارب آمال الزهاوي وعلي جعفر العلّاق ومؤيد الراوي، المخفورة بأنفاس اليتم.
وكم أصاب الناقد حين نعت هذا الجيل بquot;أيتام سومرquot;، قائلاً إنّهاquot; النّعت الأوفى تشخيصاً لهوية جيل الستينات في الشعر العراقي المعاصر. ولعلّه يتم مركّب في حالة شعرائه: يتمهم في سومر مسقط رأسهم الحضاري العريق. سومر تلك الالتماعة الحضارية الراقية في سديم العالم القديم، و يتمهم في بدر شاكر السياب أبيهم الشعري الرمزي و رأس الحربة في شعرية الرّيادةquot;.
**