مها بدر الدين

لاشك أن أسطول الحرية التركي كان محاولة جريئة وجرعة أمل من المخطط لها أن تحقن في شرايين غزة لتتدفق فيها دماء الحياة وتعين الغزاويين على الصمود، لكن يبدو أنها كانت جرعة زائدة أدت إلى إزهاق روح التفاؤل بالقدرة على كسر قضبان السجن الغزاوي الكبير الذي أسسته إسرائيل بدعم أميركي مطلق في ظل الانقسام الفلسطيني من جهة والصمت العربي من جهة أخرى.
وبغض النظر عن شرعية المحاولة ونبل الأهداف، وبافتراض حسن النوايا، إلا أنه من الجدير التوقف عند نقطة مهمة تستحق التدقيق والتفكير والتحليل، فرغم أن قافلة الحرية قد نظمتها منظمات إنسانية ونشطاء سياسيين ومثقفين عالميين ومناهضين للحرب ودعاة سلام، إلا أن نتائجها كانت ذات صبغة سياسية بحتة غلب عليها الطابع العثماني العنيد والنكهة التركية اللاذعة، واستغلتها تركيا أحسن استغلال لتفرض على العالم الأوروبي والأميركي والعربي، وحتى إسرائيل أن ينظروا إليها برؤية سياسية جديدة وجدية، وترسل لهم عبر قافلتها رسائل سياسية عدة...
الأولى أرسلتها تركيا إلى العالم الأوروبي الذي لم يعر بالاً لكل عمليات التجميل السياسية والاقتصادية والدينية التي خضعت لها للحصول على مظهر ديموقراطي ليبرالي جديد يروق للذوق الأوروبي ويحظى برضاه، وأصاب التجاهل الأوروبي الكرامة التركية في مقتل فقررت أن تظهر للأوربيين الوجه الآخر من تركيا الحديثة، وتثبت بأن دورها السياسي في أهم منطقة نزاعات في العالم هو دور أساسي ومؤثر في مجريات الأحداث، وأن لها القدرة على تغيير الخريطة السياسية في المنطقة وإعادة ترتيب مواقع القوة فيها بما يتناسب مع سياستها الخارجية التي تسعى سعياً دؤوباً لاثبات وجودها السياسي والاقتصادي.
والرسالة الثانية وجهت إلى الولايات المتحدة الأميركية، تغازلها فيها وتلفت نظرها إلى قدراتها السياسية والاقتصادية والثقافية التي من شأنها أن ترشحها للعب مع الكبار في الشرق الأوسط وبالجزء العربي بشكل خاص، كما أنها تلوح لها باستطاعتها على أن تعيد صياغة المعادلة السياسية في الصراع الإسرائيلي - العربي، وترجيح كفة الميزان العربية بما يهدد مصالحها ومصالح ربيبتها الإسرائيلية خصوصاً أن هناك عوامل كثيرة تدعم موقفها كالقرب الجغرافي والتاريخ المشترك والتقارب الثقافي والاجتماعي مع بلاد الشام والدين الإسلامي الذي يجمعها مع العرب ومدى تأثيره القوي على عامة الشعوب العربية التي أصبحت تنظر إلى تركيا المسلمة وكأنها طريق الخلاص.
أما الرسالة الثالثة فقد وجهتها إلى العالم العربي، المسكين، وغلب عليها الطابع العاطفي الدرامي، تستثير فيها عواطف التأييد والتمجيد، وتصور نفسها أمامه كأنها البطل المقدام والفارس الهمام الذي سينهي عصر الظلم والظلام ويعيد إلى العرب المجد والسلام، خصوصاً أن الشعوب العربية قد فقدت الثقة بحكوماتها وتفتقد لمن يعيد إضرام النار تحت الرماد الخامد الذي غطى جميع نواحي حياتها وكاد أن يطمس معالم الشخصية العربية بكل عنفوانها ويمحي من الأذهان قضيتها القومية الأولى، بل أن بعض هذه الحكومات قد انجرفت إلى هذا المطب فهللت لأحفاد العثمانيين باعتبارهم سيحملون عنها عبء المواجهة وترفع عن كاهلها ثقل القضية لترميه في أحضان تركيا العثماينة.
ولعل الرسالة الأهم كانت لإسرائيل، فرغم أن تركيا كانت أول المعترفين بها والمؤيدين لها والمطبعين معها، وترتبط معها بعلاقات ديبلوماسية متميزة إلا أنها تدفعها لتقوم بدورها السياسي في الضغط على الأميركيين والأوروبيين ليعيدوا النظر في موقفهم من تركيا قبل أن تضطر، وهي كارهة، أن تنتقل إلى الضفة الأخرى من الصراع العربي - الإسرائيلي.
لكن يبدو أن أصداء هذه الرسائل لم تكن بالحرارة التي كانت تتوقعها تركيا، فبعض الدول الأوروبية كهولندا وإيطاليا بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية قد اعترضت وبشدة على قرار مجلس حقوق الإنسان في يونيو الماضي الذي يدين إسرائيل ويدعو إلى إجراء تحقيق دولي في هجومها على الأسطول وهو في المياه الدولية، وهو ما يدل على تجاهلها للدور الجديد الذي تخطط تركيا للعبه في المنطقة.
كما لم يكن رد فعل الدولة الإسرائيلية بأكثر حرارة، فوزير السياحة الإسرائيلي يطالب بمقاطعة تركيا سياحياً واعتبار هذه المقاطعة تعبيراً عن الكرامة الوطنية وشرفاً للشعب الإسرائيلي، ووزارة الخارجية الإسرائيلية قد جمدت إجراءات إيفاد سفير لها إلى تركيا حتى إشعار آخر مع التوجه لخفض مستوى التمثيل الديبلوماسي لها في أنقرة رغم أن تركيا أعادت سفيرها إلى تل أبيب بعد سحبه عقب الهجوم الإسرائيلي على قافلتها.
ويبدو أن تركيا قد أعادت حساباتها بعد أن رأت أن الصدى البارد لرسائلها لم يعكس النتائج التي كانت تتأملها منها، فبدأت تغازل الدولة الإسرائيلية وتوارب باب المصالحة معلنة الاستعداد لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين في حال اعتذار إسرائيل لها، فهل ستعتذر إسرائيل وتحاول أن تردم الحفرة التي بدأت تحفرها تركيا بالمزاميل الفلسطينية، أم ستسوق الدلال على تركيا وتتركها تنتظر اعتذارها على أحر من الجمر، أم أنها ستغتنم الفرصة لتجد مبرراً لعداء تركيا وتحاول تحقيق هدفها السامي برسم حدودها المقدسة التي تصل لضفاف الفرات؟