شريف عبدالغني

إنها المرة الأولى التي يتوحد فيها العرب بهذا الشكل منذ وفاة عبدالناصر. فمنذ رحيل الزعيم دخل العالم العربي في انقسامات وصراعات وأزمات باستثناء فترة حرب أكتوبر 1973، التي توحد فيها الجميع لاسترداد الأرض السليبة.
في السبعينيات هلت بشائر الاتفاقيات مع إسرائيل، وانتهت بمقاطعة العرب لمصر ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس. وكادت وقتها أن تندلع حرب بين مصر وليبيا. وفي الثمانينيات باءت كل محاولات التقارب وإنشاء التكتلات بالفشل. أما في التسعينيات فكانت القشة التي قصمت ظهر بعير الأمة.. غزو الكويت. انقسم العالم العربي إلى فسطاطين، مع وضد، والنتيجة كانت كارثية على الجميع.. مليارات الدولارات المهدرة، وفقد الكثير من مقدرات الأمة، وحالة احتقان بين الجميع، وأخيرا احتلال العراق وخروجه من معادلة القوة العربية.
جمع جمال عبدالناصر العرب حول مشروع الوحدة والاستقلال، وتحقق له ما أراد واستجابت الملايين على مدى الوطن الكبير لدعواته بالتحرر، وخرج الاستعمار التقليدي من كامل المنطقة.
أقول منذ ذلك العصر ناصع البياض في التاريخ العربي، لم يحدث أن التف العرب حول مشروع قومي مشترك. لكن فعلتها قطر.. وفعلها سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وصنع حالة عربية مشتركة في ميدان جديد ووفق ظروف دولية مختلفة. هذه الحالة بدت واضحة في الاحتفالات التي عمت مختلف أرجاء المنطقة والفرحة التي غمرت كل عربي بعد إعلان طرق قطر أبواب التاريخ من أوسع أبوابه وفوزها بشرف تنظيم الحدث العالمي الذي تقف له الكرة الأرضية انتباه كل أربع سنوات.
الالتفاف العربي حول قطر في هذا المشروع الكبير، يحمل في طياته الكثير من الدلالات التي يجب على سياسيي وأكاديميي الأمة دراستها، وتفعيلها لخلق حالات مشابهة في مختلف المجالات. وأكبر المكاسب مما حدث هو نجاح القيادة القطرية في نفض حالة الإحباط التي أحاطت بالمواطن العربي نتيجة النكسات والانكسارات المتتالية التي مر بها طوال عقود نتيجة أخطاء.. بعضها خارج إرادته وتسبب فيه السياسيون، وبعضها الآخر يشارك هو نفسه فيها بصمته وسكوته على أخطاء هؤلاء الساسة. لقد تخلص من غبار العجز الذي كان يغطيه وبات يشعر أنه قادر على مناطحة الكبار والتفوق عليهم في مجالات التكنولوجيا التي كانت بمثابة خط أحمر لا يستطيع تخطيه، وذلك بعدما أبهر الملف القطري لتنظيم كأس العالم كل من اطلع عليه وجعل الجميع يوقن أنه من الظلم ألا تفوز قطر بهذا الشرف الرفيع، حتى ولو كان المنافسون هم أباطرة العلم والثروة في الكون وهم الولايات المتحدة واليابان وكوريا وأستراليا. أسماء quot;تخضquot; وجعلت من يقف أمامها يشفق على الدوحة، لكن ثقة القيادة القطرية كانت أكبر في الفوز، فاجتهدت ووضعت برنامج وخطط عمل استمرت سنوات طويلة أثمرت هذا الإنجاز المبهر، وستستمر سنوات أخرى حتى تنظيم الحدث المشهود.
يدرك كل عربي أن تنظيم قطر كأس العالم لكرة القدم، لن يمثل نهضة فقط في المجال الرياضي، بل إنه في الأساس بداية عمل تنموي ضخم وغير مسبوق سيطال كافة المجالات في قطر من بنية تحتية عملاقة ومنشآت وفنادق ومجمعات رياضية، وغيرها من الخدمات والمرافق، كلها ستضاف إلى الرصيد العربي ككل وليس القطري فقط، لإدراك كل مواطني الدول العربية أن قطر لا تدخر جهدا في سبيل حل مشاكل أمتها والتغلب على أزماتها، وليس ببعيد الدور القطري البارز في دعم الشعب الفلسطيني، وجمع الفرقاء اللبنانيين، ووأد بؤرة التوتر في دارفور، وغيرها من المناطق الملتهبة.
والمؤكد أن انعكاسات تنفيذ ما تضمنه الملف القطري لتنظيم البطولة، ستمتد بالخير إلى الشركات العربية التي سيكون لها نصيب من هذه المشروعات، فضلا عن فتح مزيد من فرص العمل في قطر؛ البلد الذي لا يفرق أبداً في المعاملة بين أبنائه وبين المواطنين العرب الذين يعملون فيه، وكم سمعت من مصريين يعملون هناك كلمات الامتنان عن مدى التسهيلات العلاجية والاجتماعية والمعاملة الراقية المتحضرة التي يلقونها في هذه الدولة المضيافة، حتى إن أحدهم لم يصدق حينما أخبره رؤساؤه في العمل أنهم قرروا سفره إلى الصين على نفقة الدولة لاستكمال علاجه هناك من مرض ألمّ به.
لكن ورغم الفرحة التي تسري في صدورنا من هذا الانتصار العربي، فعلينا الحيطة والحذر خلال الفترة المقبلة، فالبعض ساءه هذا الإنجاز واستكثروه علينا، ولذلك فقد تخرج حملات التشكيك هنا وهناك، مثلما حدث مع جنوب إفريقيا التي نظمت البطولة الماضية، راحوا يتحدثون عن quot;التسيبquot; الأمني في هذا البلد وهوّلوا فيه، لكن خرجت البطولة بشكل مشرف ولم تتحقق هواجس المشككين. إنها النظرة الدائمة تجاه quot;الجنوبquot;. نظرة الاستعلاء والاستكبار التي لا تدرك أن العالم تغير، ولم يعد فيه مجال للسيد والعبد.
لا أستبعد أن تمتد أصابع الجهات والدول المستاءة من التفوق القطري، لمحاولة تشويه الصورة الرائعة التي رسمتها القيادة القطرية للعالم العربي، بل والتأثير على استعدادات قطر لحصد الجهد الكبير الذي بذلته لتفوز بتنظيم هذا الحدث الكبير، ولن يكون غريبا أن تخرج بعض المنظمات المجهولة بين الحين والآخر والتي يحركها quot;المغتاظونquot; من الفوز القطري لتبث شائعات لا تسكن إلا في خيالات المرضى والأقزام.
لكن كل هذه المحاولات البائسة، لن تؤثر في الإنجاز الذي يلتف العرب جميعا حول قيادة سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، حتى يخرج في الصورة التي ستكون فخرا للعالم كله.
سكن الذهن العربي المثل القائل: quot;خايب الصيف.. خايب الشتاquot;، وأضاف إليه من باب السخرية وجلد الذات: quot;خايب الحرب.. خايب السلام.. خايب التنميةquot;، بعد التدهور الذي لحق بالأمة من سياسيين حصدوا الهزائم في كل معاركهم الحربية والتفاوضية والاقتصادية، لكن القيادة القطرية العربية الأصيلة جعلت الكل يتخلص من هذا الشعور والنظر بأمل نحو المستقبل والقدرة على الانتصار.