مأمون فندي

قد يبدو عنوان المقال محيرا، فما علاقة الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون بمؤسس موقع laquo;ويكيليكسraquo; جوليان أسانج؟.. وما علاقة هذين الاثنين بأمين تنظيم الحزب الوطني في مصر أحمد عز؟ العلاقة تكمن في حركة الزمن. جوليان أسانج قدم عقارب الساعة 37 سنة، وأحمد عز أخر عقارب الساعة 50 سنة، ونيكسون هو المعيار، ودعوني أفسر. نشرت laquo;نيويورك تايمزraquo; في عدد السبت أشرطة تسجيل للرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون، وهي أشرطة يفرج عنها لأول مرة وقد سجلت عام 1973، حيث لعن فيها نيكسون يهود أميركا وشتمهم بأقذع الشتائم بمن فيهم كاتب خطاباته ويليام سافير، الذي أصبح في ما بعد كاتب عمود شهيرا في laquo;نيويورك تايمزraquo;، وكذلك مستشار الأمن القومي لدى هنري كيسنجر. في هذه الأشرطة، قال نيكسون إن يهود أميركا مرضى بمركب نقص، وهذا ما يدفعهم إلى إثبات التميز وتحقيق الإنجازات. ورغم كراهية نيكسون ليهود أميركا فإنه كان معجبا بيهود إسرائيل، حيث استقبل رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير أثناء حرب أكتوبر 1973، وأقام لها حفل عشاء في واشنطن، طلب ألا يحضره من يهود أميركا إلا الذين أيدوا حملته للرئاسة laquo;لأنه ليس عشاء يهود كما يتصورونraquo;، على حد قوله. ومع ذلك أعطت الولايات المتحدة غولدا مائير ما طلبته من الأسلحة، وتحقق لها الجسر الجوي الذي أرادته حتى تلحق هزيمة ماحقة بالجيوش العربية، وبالفعل أنقذ نيكسون إسرائيل يومها رغم ما أوضحته التسجيلات المفرج عنها من كراهيته لليهود الأميركيين واحتقاره لهم.

كان هذا في عام 1973، وقد أفرج عنه اليوم، أي بعد سبعة وثلاثين عاما. هذا هو الزمن الطبيعي المتعارف عليه للإفراج عن الوثائق الرئاسية الأميركية، وأحيانا يكون الوقت أسرع من هذا فيصل إلى خمسة وعشرين عاما في حال الوثائق غير الرئاسية. هذا هو الوضع الطبيعي.. أما غير الطبيعي، فهو أن يفرج عن الوثائق بعد أعوام قليلة من كتابتها، وهذا ما فعله جوليان أسانج وموقعه المعروف بـlaquo;ويكيليكسraquo;. فلو كشف عن هذه الوثائق في زمنها الطبيعي، لكان جيلي قرأها ونحن في الثمانينات من العمر، أي بعد ثلاثين سنة من الآن.. أما وقد رأينا وقرأنا ما كان من المفترض معرفته بعد سبعة وثلاثين عاما من الآن، فمعنى ذلك أن جوليان أسانج ومن خلال موقعه الإلكتروني قد استطاع وفي ضربة واحدة أن يحرك الزمن العالمي أكثر من ثلاثين عاما إلى الأمام. أما أحمد عز أمين تنظيم laquo;الحزب الوطنيraquo; في مصر، فقد أدار عجلة الزمن في مصر إلى الوراء من خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فبدلا من أن يأخذ مصر ثلاثين عاما إلى الأمام، كما فعل بنا جوليان أسانج، أخذ أحمد عز مصر إلى عالم الحزب الواحد، وعالم الستينات، وعالم الاتحاد الاشتراكي. أي أخذ مصر أكثر من خمسين عاما إلى الوراء. وهكذا هو عالمنا اليوم يختلط فيه العالم الحديث بالعالم التقليدي بالزمن ما بعد الحداثي.. أناس يحركون الزمن إلى الوراء، وفي المقابل أناس يأخذون الزمن إلى الأمام.

حركة الزمن هي الأساس في كل الهوس الفكري والفني الذي ساد الفترة من اكتشاف نظرية النسبية حتى نهاية القرن العشرين. الهوس بفكرة الزمن هذه هو الذي أدى إلى الإبداعات الكبرى.. ففي الأدب مثلا، من مارسيل بروست وlaquo;الزمن الضائعraquo;، إلى ويليام فوكنر ورواية laquo;الصخب والعنفraquo; التي يختلط فيها الزمن على شخصية بنجامين، أو بنجي في الرواية، الشيء نفسه قام به الروائي الأميركي كيرت فونيجيت في روايته الشهيرة laquo;المذبح رقم 5raquo;، التي تتحدث عن ضرب مدينة درسدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية، حيث يرسم شخصيته المحورية على أنها شخصية تتحرك في الزمن بحرية إلى الأمام والخلف معا، أي خليط ما بين أحمد عز وجوليان أسانج، للوراء وللأمام في الوقت ذاته.

الزمن ما بعد الحداثي زمن متقطع، فهو يتحرك مثلا إلى الأمام في أستراليا وأميركا وأوروبا، وربما ليس كلها، بينما يتحرك إلى الوراء في مصر.

ورغم أن الذين لا يعرفون المجتمعات الأوروبية والأميركية قد يرونها كلها وقد انتقلت إلى عالم ما بعد الحداثة، فإن هذا ليس صحيحا، ففي أميركا مثلا نجد أن سيلكون فالي وولاية كاليفورنيا مثلا يعيشان في زمن ما بعد الحداثة وعالم الـlaquo;سوفت ويرraquo;، أما مدينة بيتسبيرغ في ولاية بنسلفانيا في الشرق فهي تعيش على صناعات الحديد الثقيلة، تحيا في زمن الحداثة وزمن الـlaquo;هارد ويرraquo; أو الصناعات الثقيلة، في الوقت ذاته هناك ولايات مثل ألاباما وأيوا وأركنسا، تعيش في زمن ما قبل الحداثة وفي نمط الإنتاج الزراعي..

laquo;ويكيليكسraquo;، ليست حدثا عاديا كما يتصور البعض في محاولة فهم تبعاتها السياسية الآنية، laquo;ويكيليكسraquo; جزء من ظاهرة أكبر مرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة ومفهومنا للزمن وحركتنا فيه. عندما وصلت إلى الولايات المتحدة للمرة الأولى قادما من قريتي في أقاصي الصعيد عام 1985 أرسلت خطابا إلى أهلي لطمأنتهم بالبريد العادي الوسيلة الوحيدة المتاحة وقتئذ، وجاءني الرد بعد ثلاثين يوما من إرساله! أما الآن، فأرسل رسالة قصيرة عن طريق الموبايل أو الإيميل فتصل للمرسل إليه بعد ثلاثين ثانية. إذن تم اختصار الزمان من ثلاثين يوما إلى ثلاثين ثانية، أي أن اليوم في الثمانينات يساوي ثانية في زماننا الآن، هذه هي التكنولوجيا الحديثة، وهذا جوليان أسانج وlaquo;ويكيليكسraquo; قد نقلانا ثلاثين عاما على الأقل إلى الأمام. وهذا ما يقلص فكرة الجغرافيا، ويقلل خطأ من أهميتها، لأنه يخلق وهما لدينا بأننا نتواصل مع بعضنا بعضا من أطراف العالم المختلفة من خلال الرسائل القصيرة والإيميل، فيتكون لدينا انطباع بأن العالم هو قرية صغيرة.. زمن العولمة قلص إحساسنا بالمكان، وبدا الأمر وكأننا نعيش إلى جوار بعضنا بعضا. لكن الخطورة هي أن هذا التصور هو مجرد انطباع خاطئ. وفي هذا السياق الذي يشهد هذه laquo;اللخبطةraquo; بين الجغرافيا والتكنولوجيا، أسرد ما شاهدته منذ يومين يعرض على محطة بريطانية، حيث يقدم برنامج تلفزيوني أكثر الفيديوهات مشاهدة على الـlaquo;يوتيوبraquo; خلال أسبوع، وكان منها فيديو لشابة تعلم ممارسة الجنس على الـlaquo;يوتيوبraquo;، ولأن هذا الفيديو كان مطروقا بشكل كبير من زوار الإنترنت، فقد التقى معد البرنامج بهذه الشابة وسألها هل كانت تتوقع كمية الغضب والانزعاج التي جاءت في تعليقات على الفيديو من مجتمعات محافظة، فأجابته الصبية بكل تلقائية: laquo;لا، لم أكن أتوقع هذا الغضب، لأنني بصراحة لم أكن أعرف أن الناس في هذه المجتمعات يعرفون الإنترنتraquo;.

هذا هو البعد التجريدي والفلسفي في ما حدث، لأن laquo;ويكيليكسraquo; لها دلالات كبرى، منها أيضا المفهوم الجديد الذي طرحته علينا لما هو سر، فما معنى السر أو السري في زمان ما بعد laquo;ويكيليكسraquo;؟.. فمثلا هل كان مهما أن يقبض البريطانيون على من يعتقد بأنها جاسوسة روسية تعمل في البرلمان البريطاني، في وقت تتسرب فيه المعلومات والوثائق بكل هذا الكم الهائل؟

في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، استخدم محمد عطا وجماعته التكنولوجيا المتقدمة للطائرات من خلال تكنولوجيا التخلف المتمثلة في تذكرة سفر وسكين، وارتطم زمان محمد عطا بزمان مركز التجارة العالمي، فأحدث كارثة كبرى.. وقد يرى البعض في ذلك مبالغة في المقارنة، لكن يبقى سؤال: ترى أي كارثة ننتظر عندما يرتطم زمان أحمد عز بزمان جوليان أسانج؟