عبد الوهاب بدرخان

أتاحت تسريبات موقع quot;ويكيليكسquot; لساسة العالم أن يتعرفوا إلى الصورة التي تصنعها لهم الدبلوماسية الأميركية. لكنهم تعرفوا أيضاً إلى العقلية التي يتعاطون معها، يخاطبونها وتكتب تقاريرها عنهم. إذ بدا من الصعب العثور على أي شخصية، غربية أو شرقية، منتخبة أو غير منتخبة، يمكن أن تحظى بشيء من التقدير أو حتى بشيء من الحيادية من جانب مبعوثي الولايات المتحدة إلى مختلف العواصم. قد يكون عالم السياسة بشعاً إلى هذا الحد، بل ربما أكثر، غير أنه ازداد بشاعة معكوساً بعيون أميركية مفعمة بالآراء المسبقة ومبرمجة لترى كل ما يقال أو يفكّر به، على أنه يجب أن يكون حكماً في خدمة الدولة العظمى. وبهذه المواد الأولية الفضائحية تطبخ واشنطن سياساتها التي يتردد الآن يوميّاً أنها quot;لن تتأثرquot; بفعل quot;العمل المقيتquot; -كما وصفه أوباما- الذي ارتكبه quot;ويكيليكسquot;.

في أنظار المتلقين، سواء للتسريبات أو لمضامينها ونتائج السياسات الناتجة عنها، يتعلق الأمر فقط بزحمة أعمال مقيتة تتبادل أطرافها الاتهامات بين ناشر ومنشور، وبين محصّن بـquot;شرعيةquot; حكومية ومفتقد لها لكنه آخذ في اكتساب quot;شرعيةquot; مجتمعمدنية. فالقاعدة الغربية (الأميركية) تفيد بأن ما يصبح معلوماً يصير في كنف الشعب، وطالما أن هناك قناة للاستعلام فلا يلوم من يتهاون بأسراره سوى نفسه. لذلك يطرح التساؤل الذي يجب أن تهتم واشنطن بالإجابة عنه: لماذا حصل هذا التسريب الهائل في أميركا وضدها، ومن سرّب وكيف؟ لأن هناك مشكلة أميركية قادت إلى هذا الحدث، وما دامت واشنطن اعترفت للدول المعنية بالأذى الذي تنطوي عليه وثائقها فمن حق هذه الدول أن تعرف الدوافع والأسباب.





بمعزل عن الاعتبارات القانونية، يحاول المتضررون تعميم الافتراض بأن الجمهور لا يرغب أو لا يريد هذه الجرعة الفائضة من المعلومات، ولا يتطلع إلى هذا المقدار من الحق في المعرفة، ولا يطالب بهذا المدى المتقدم من الحرية. ولكن هذا مجرد افتراض، فمن السذاجة الاعتقاد بأن الجمهور لا يريد أن يعرف أكثر، ولعل quot;فضيلةquot; التسريبات أنها أكدت كتابيّاً ما كان يخمنه حدسيّاً أو يظنه إشاعة محتملاً فيها الخطأ. وبمعزل عن أن هناك من طرح الحل الجذري الغبي: التخلص من جوليان أسانج بالتصفية الجسدية، تحدث المتضررون عن فوضى وتهور وتخريب وإساءة متعمدة. بل وصفوا مؤسس quot;ويكيليكسquot; بأنه quot;فوضويquot; عديم المسؤولية، ثم زجوا به في زنزانة انفرادية بتهمة اغتصاب امرأة سويدية وليس بتهمة نشر أسرار حكومية غير مرخص له بكشفها ولا هي معدّة لاطلاع الرأي العام عليها.

على رغم شعور الجهة الحكومية الأميركية بالغضب إزاء انتهاك إحدى خزائن معلوماتها، إلا أنها تحاذر الظهور كسلطة قمع معادية للشفافية مما يفرض عليها تطوير تشريعات جديدة للتعامل مع انفلاتات العولمة، أو تجاوز ما يتوفر حاليّاً من أحكام قانونية ودستورية. وفي انتظار حسم هذا المأزق بدا ملحّاً ومبرراً العمل على إزاحة الشخص الذي تسبب بهذه الكارثة السياسية، وهي لم تنتهِ فصولاً بعد. لكن quot;أسانجquot; ليس سوى وجه للشبكة، أما المسألة المطروحة فلا تتعلق بشخصه وإنما أصبحت تتعلق الآن عمليّاً بما تضمنته الوثائق المسربة وبالمنظومة المعقدة، الأيديولوجية والنفسية، التي تعبر عنها وتطبق مفاهيمها ونظرتها إلى العالم وشعوبه.

بعدما شبّهت تسريبات quot;ويكيليكسquot; بأنها quot;11 سبتمبر سياسيةquot;، لم يكن مستغرباً أن تقترب خطط الرد على هجوم الشفافية هذا، من الخطط التي رسمت لمحاربة الإرهاب وتنظيم quot;القاعدةquot;، خصوصاً في تركيزها على الأفراد، ففي مقاييس الإيذاء قد يكون أسانج وضع في مصاف أسامة بن لادن. لكن، مع الفوارق الواضحة بين quot;القاعدةquot;، خصوصاً وquot;ويكيليكسquot; سيسهل أن نلاحظ أن التنظيم الإرهابي توسع بعد ضربه وانتشر، أما التنظيم الإلكتروني فيشهد حاليّاً، استعدادات بل بوادر حرب مفتوحة يتنادى لها quot;الهاركزquot; المتطوعون من مختلف المشارب والأرجاء.