احمد عائل فقيهي


سأقر وأعترف في البدء أن هذا العنوان هو من وحي كتاب ألفه باحث وسياسي سوداني بارز هو منصور خالد، والذي يحمل عنوان laquo;النخبة السودانية وإدمان الفشلraquo;، وفيه يحلل عدم قدرة العقل السوداني المتعلم والمثقف لدى النخب السودانية في بناء المجتمع والدولة، وبتصرف شديد أخذت الجزء الثاني من عنوان الكتاب مع إسقاط لفظة laquo;السودانيةraquo; لتحل محلها لفظة laquo;السعوديةraquo;، مع إيماني المطلق بأن من يسمون أنفسهم بالنخبة في البلدان العربية، سواء أكانت هذه النخبة سعودية أو سودانية أو مصرية أو لبنانية أو عراقية وغيرها من النخب العربية، هي نخب فشلت في إشاعة وعي جديد وفهم جديد لما يمكن أن يكون عليه المجتمع العربي من تحولات جذرية، في طرائق التفكير وأنماط الرأي واتجاهاته وفي مسار الحياة العربية بكاملها، نتيجة أن المثقفين العرب في عمومهم ليس لديهم قضايا كبرى يدافعون عنها ويموتون من أجلها، مع وجود هذه القضايا في المجتمع العربي المثقل بالهموم والهواجس، وليس لديهم أيضا الشجاعة الكافية في مواجهة الحالة الظلامية التي يغرق فيها العالم العربي والإسلامي، نتيجة هذا الصعود المتنامي للفكر المتطرف، بل هناك حروب تشن من الداخل على الإسلام تنال منه وتسيء إليه من أهله قبل خصومه، أي من داخل هذا الإسلام لا من خارجه كما هو الرأي السائد.
وفي الداخل السعودي، في هذا المجتمع الذي يقع بين ماضٍ ما زال يلقي بظلاله على الحاضر بقوة، من حيث سطوة العادات والتقاليد، وحاضر يبحث عن أفق جديد باتجاه المستقبل وعن واقع اجتماعي أكثر انفتاحا، يقتضي وضع سؤال حول دور المثقف السعودي أو من يسمون أنفسهم بالنخبة، ومساحة هذا الدور، وهل حققت هذه النخبة حضورها في المجتمع من حيث تأثيرها ودورها التنويري، وهل ظل هذا الدور مجرد دور هامشي ليس له قيمة ولا يحمل في آلياته وخطاباته أي جديد وأية جدوى.
إن عدم تأثير دور المثقف أو النخبة السعودية وغياب هذا الدور وعدمه يأتي من كون خطاب التشدد ظل يمتلك تأثيرا في الذهنية الاجتماعية على مدى أكثر من خمسين عاما، وامتلاك هذا الخطاب الذي يتكئ ويرتكز حضوره على الخطاب الديني، وانحياز أطياف من المجتمع لخطاب التشدد هو الذي أفضى وأدى إلى إقصاء دور النخبة السعودية التي بدورها لا تحمل أفكارا متجاوزة ومشروعا تنويريا، وهذا الإقصاء جاء جراء عدم إيمان المجتمع نفسه بجدوى المثقف وجدوى الثقافة وعدم الاهتمام بما تحمله كلمة المثقف من معنى ودلالات، ومن ثم غياب دور هذا المثقف والقيمة التي تحملها لفظة ثقافة؛ لذلك ليس هناك تأثير عميق وجذري في المجتمع السعودي للثقافة بمعناها المختلف والتنويري والحديث، وليس بمعناها التقليدي السائد، ومن هنا يبدو تجلي وبروز الدور الذي يلعبه الخطاب المتشدد مقابل دور المثقف في بلورة وبرمجة العقول والأذهان، وسوف أطرح هنا مثالا: لو أقيمت محاضرتان الأولى لأهم وأكبر داعية في المشهد الديني والإسلامي والثانية لأهم وأكبر مثقف أو مفكر في نفس المدينة الواحدة وفي ليلة واحدة ترى أين سيذهب غالبية المجتمع، هل إلى سماع المحاضرة الأولى أم إلى سماع الثانية؟ سأقولها وبكل صراحة ووضوح سيذهب غالبية المجتمع إلى سماع المحاضر الأول، وهو الداعية الذي يرتكز ويتكئ خطابه على ما هو ديني، ذلك أن للشيخ والداعية جاذبية في المجتمع لا يملكها ولا يحملها المفكر والمثقف، وهذه الجاذبية هي من صنع المجتمع نفسه، هو الذي فعل وفصل هذه العلاقة بين المجتمع والداعية من جهة والمجتمع والمفكر والمثقف من جهة ثانية، ومن هنا يبدو عمق الفجوة ما بين المثقف والمجتمع وضيق الفجوة ما بين الداعية والمجتمع؛ نتيجة جذور تاريخية وأعراف اجتماعية.
نعم، لقد فشل المثقف السعودي في أن يحقق مصداقيته في المجتمع، وفشل في أن يصبح صاحب مشروع تنويري في ظل تقاعسه في أداء دوره كما ينبغي وكما يجب، ولأنه يبحث عن مكاسب اجتماعية ورسمية ووظيفية جعلته لا يؤمن بجدوى أن يكون مثقفا جماهيريا فاعلا ومؤثرا في المجتمع، ولأن المجتمع نفسه لا يكترث البتة بأهمية المثقف ومعنى الثقافة، لذلك نجد الكثير من المثقفين هزموا أمام سطوة حضور الفقيه الديني وحضور الداعية، وبفعل انشغال المجتمع بقضايا أخرى مثل متابعة مباريات كرة القدم وصفقات شراء اللاعبين، وطغيان الثقافة السطحية والغناء السطحي وكل ما له علاقة بالمعرفة نتيجة أن يكون سطحيا، وما عليكم إلا أن تقرأوا قوائم الكتب الأكثر مبيعا في المملكة، وسوف تصابون بالذهول، بل والفزع من أسماء الكتب الأكثر مبيعا وأكثر قراءة ورواجا لتروا حجم الفاجعة الثقافية والمعرفية التي نحن فيها، وما هو الخطاب الفكري والثقافي الذي يسيطر على أذهان الناس وعقولهم والمستحوذ على اهتمامات المجتمع واتجاهات الرأي والتفكير فيه، والذي يهندس ويبرمج هذه العقول والأذهان، أليس هذا هو الفشل الحقيقي لدور المثقف وللثقافة في بلادنا.