جلال عارف


يبدو أننا نفهم الأمر خطأ، ولا نتابع جيداً ما يحدث أمامنا.. ولو فعلنا لوجدنا أن laquo;حل الدولتينraquo; يسير بأحسن طريقة ممكنة، وأن الإدارة الأميركية قد بذلت كل جهدها وجندت كل طاقاتها من أجله، واستخدمت كل ما تملك من أسلحة الوعد والوعيد، وضغطت بكل الأوراق التي في يدها، لتحقق في النهاية النتيجة التي عملت من اجلها لسنوات! وها هو الرئيس الأميركي يدعو من الآن ممثلي دول العالم، لأن يقفوا مع الدولة الوليدة ويمنحوها الشرعية من خلال الأمم المتحدة، ويعد للاحتفال بذلك بعد أسابيع!

لقد وعدت واشنطن وأوفت بوعدها، والمشكلة عندنا نحن.. فقد كنا نظن أن الحديث عن laquo;حل الدولتينraquo; مقصود به laquo;فلسطينraquo;، بينما كان الجهد الأميركي كله يتجه نحو الجنوب لتقسيم السودان، وإعلان جنوبه دولة مستقلة، في تطبيق شامل كامل لlaquo;حل الدولتينraquo; وفقاً للروشتة الأميركية، ولا عزاء للسودان، ولا لفلسطين، ولا للعرب أجمعين.. فالقصة كلها خطأ بسيط في العنوان، كانت نتيجته أن انتظر الجميع الدولة في laquo;القدسraquo;، فوجدوها في laquo;جوباraquo;، وسيجدونها غدا في مدن عربية كثيرة ليس من بينها القدس الأسيرة.. إلا إذا استفاق العرب من حالة laquo;الغيابraquo; التي يمرون بها، وأدركوا حجم المخاطر في ترك laquo;أوراق اللعبةraquo; في أيدي غيرهم ليقرر مستقبلهم ومستقبل المنطقة!!

منذ أن بدأت الكارثة وأخذت الولايات المتحدة الأميركية كل أوراق اللعبة في يدها، وهي حريصة على الانفراد بالقرار في الملفات الأساسية وأولها قضية فلسطين، وعلى إبعاد كل القوى بما فيها الأمم المتحدة، وعلى وضع قواعد جديدة بديلاً لقرارات الشرعية الدولية.

وعندما جاء الرئيس أوباما للحكم وتبنى سياسة تتجه للمصالحة مع العالمين العربي والإسلامي، وتحاول إزالة آثار الجريمة التي ارتكبتها بلاده بتدمير العراق، والعداء لكل ما هو عربي ومسلم، والانحياز الكامل لإسرائيل، ومع إعلانه من القاهرة أن الأولوية ستكون لقضية فلسطين، باعتبارها القضية المركزية لاستقرار المنطقة، وأن إدارته ستضع كل إمكانياتها من اجل تسوية شاملة تقوم على أساس laquo;حل الدولتينraquo;، فقد كان طبيعياً أن تنتعش الآمال بتصحيح أخطاء السياسة الأميركية، خاصة بعد تأكيد الرئيس الأميركي أن السلام في المنطقة هو laquo;مصلحة أميركية قوميةraquo;، وأن مفتاح ذلك هو في فلسطين وليس في غيرها.

وها نحن بعد عامين، نكتشف أن أسس السياسة الأميركية أقوى حتى من النوايا الطيبة للرئيس الأميركي، الذي استسلم في النهاية وأعلن الهزيمة أمام إسرائيل، وأمام اللوبي الصهيوني واليمين الأميركي الذي سيشاركه الاحتفال بتحقيق laquo;حل الدولتينraquo; في السودان، وينتظر احتفالات أخرى في بلاد عربية تواجه خطر الانقسام (تبدأ من العراق ولا تنتهي في اليمن)، بينما يستعد لتشييع جثمان laquo;حل الدولتينraquo; بالنسبة لفلسطين، ليعود إلى نفي السياسة الأميركية التي كنا نظن أنها تغيرت، بعد أن أضاعت عشرين عاماً في التفاوض العبثي الذي يمنح إسرائيل الوقت والفرصة لتمضي في الاستيلاء على الأرض، وبناء المستوطنات وتهويد القدس وفرض الأمر الواقع. وها نحن بعد كل ما جرى، لا نجد عند واشنطن إلا الدعوة للتفاوض.. ربما لعشرين سنة أخرى، كما يعد وزير الخارجية الإسرائيلي بعنصريته الوقحة، ولكن أيضا بوضوحه التام في التعبير عن حقيقة السياسة الإسرائيلية!

من هنا كان رد الفعل (فلسطينياً وعربياً) مختلفاً هذه المرة، وكان الموقف الذي نأمل ألا يتم التراجع عنه، بل ان يكون بداية لتصحيح الوضع الفلسطيني والعربي. إن التأكيد على أنه لا عودة للتفاوض دون توقف كامل للاستيطان، ودون تقديم عرض أميركي جاد يوضح مرجعيات هذا التفاوض، ويلتزم بقرارات الشرعية الدولية وبحدود الدولة الفلسطينية على أراضي 67 بما فيها القدس.. هو الموقف الذي كان لا بد منه منذ البداية. ومع ذلك فدعونا ننطلق منه، ونستكمله بالخيارات الأخرى التي نملكها، دون الوقوع في مصيدة الحديث عن أننا لا نملك أي بديل غير التفاوض، حتى ولو في ظل استمرار الاستيطان..

صحيح أن موازين القوى في غير صالحنا، وأن الانقسام الفلسطيني أفقد القضية الكثير، وأن الضعف العربي يزداد بينما التحديات تزداد شراسة، ومع ذلك فالصورة ليست بالغة السواد، والإمكانيات التي ما زلنا نملكها كبيرة لو استعدنا الإرادة وانهينا الانقسامات عربياً وفلسطينياً.. ثم إن العدو أيضا يواجه أزماته، وشرعيته تتآكل بفعل الجرائم التي يرتكبها، والعالم يتحرك لمحاصرته، والخطوة التي قامت بها البرازيل والأرجنتين بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، لا بد أن تتحول إلى تيار يسود دول العالم، رغم الضغوط الأميركية التي نجحت في تعطيل اعتراف مماثل من دول أوروبا في اجتماع قادتها الأخير، ولكن إلى حين. والفيتو الأميركي قد يمنع صدور قرار من مجلس الأمن بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولكن ذلك سيضرب ما تبقى من مصداقية واشنطن، كما أنه ينبغي ألا يمنع صدور قرار يؤكد على عدم شرعية الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، إن لم يكن من مجلس الأمن، فمن الجمعية العمومية في إطار laquo;الاتحاد من أجل السلامraquo; الذي يجعل قرارها ملزماً مثل قرارات مجلس الأمن.

وقد طالبنا منذ بداية تحرك إدارة أوباما، بتكوين فريق عمل عربي على أعلى مستوى، وفي إطار الجامعة العربية، يتولى فيه عدد من وزراء الخارجية إدارة المعركة السياسية بصورة دائمة، وبحيث تتوزع المسؤوليات على الدول العربية، في إطار جهد مشترك يستخدم كل الإمكانيات العربية، ويضغط بكل الوسائل لإقناع دول العالم وحشدها لمحاصرة إسرائيل، ولدفع الولايات المتحدة لتبني سياسة تقود حقيقة للتسوية العادلة التي لا يمكن أن تتم بهذا الانحياز السافر لإسرائيل.

طالبنا بهذه اللجنة منذ البداية، وربما عطلتها الانقسامات العربية والفلسطينية والإغراءات الأميركية. أما الآن فالموقف واضح، والطريق مفتوح أمام المصالحة العربية (وخاصة بين دمشق والقاهرة)، وفرص المصالحة الوطنية الفلسطينية لإنهاء الانقسام الذي لم يعد له مكان، بعد أن أصبح طريق التفاوض مغلقاً، وأصبحت المقاومة المدنية المشروعة سلاحاً مطلوباً ليبقي القضية حية أمام العالم، وليدعم الجهد العربي لاستعادة أوراق اللعبة، التي دفعنا غاليا ـ وما زلنا ـ ثمن التفريط فيها!!