استبدال صالحي بمتقي: نجاد يموضع الديبلوماسية حيث المفاوضات

عبدالوهاب بدرخان

أخيراً، استطاع محمود أحمدي نجاد ان ينفذ خطوة توخاها بعد انتخابه رئيساً للمرة الأولى عام 2005، إذ سعى وقتئذ الى تعيين علي أكبر صالحي وزيراً للخارجية. لكنه رضخ لتسوية تحت إرادة المرشد علي خامنئي ورعايته، قضت بتوزير مجموعة من تيار علي لاريجاني الذي كان آنذاك أميناً للمجلس الأعلى للأمن القومي وكبير المفاوضين مع الدول الغربية في شأن الملف النووي، ثم انه كان بين الذين ترشحوا للرئاسة من التيار التقليدي المحافظ ولم يحالفه الحظ. وفي ما بعد، بقي لاريجاني قيّماً على المفاوضات، أما مدير حملته الانتخابية منوشهر متقي فتسلّم حقيبة الخارجية.

كان هناك دائماً انطباع في أوساط الديبلوماسية الإيرانية بأن المفاوضات مع الدول الكبرى لا بد من أن تصل يوماً الى نقطة/ فرصة يفترض ان تكون طهران جاهزة لانتهازها. والمهم بالنسبة الى المعنيين بالملف ان من يتوصل الى الإنجاز المطلوب فيه، أي المقبول من جانب المرشد، سيكسب موقعاً مهماً ومتقدماً في النظام، ويصبح مهيأً لأعلى مراتب السلطة. كان هذا طموح لاريجاني، وكذلك طموح نجاد، وكان وجود متقي في الخارجية عنصراً داعماً مطمئناً للأول ومزعجاً للثاني. لكن نجاد عرف كيف يضرب ضربته عام 2007، إذ تخلص من لاريجاني واستبدل به زميله في الدراسة سعيد جليلي الذي كان مساعد وزير الخارجية لشؤون أوروبا وأميركا. وقبل ذلك كان استقدم صالحي لإدارة الوكالة الذرية الإيرانية. ولا يعتبر صالحي من رجال نجاد، لكن الاثنين يدينان بولاء خاص لخامنئي، ثم انهما كانا متفاهمين ربما على قاعدة ان لاريجاني اختصهما.

لم يستبعد المرشد كلياً لاريجاني بل أبقاه في الصورة ثم دعمه ليصبح رئيس مجلس الشورى (البرلمان)، ثم انه دعم بقاء أصدقائه في الوزارة، بدليل ان متقي فكر في الاستقالة بعد إعفاء لاريجاني من مهمة كبير المفاوضين، بل قدم استقالة مكتوبة، إلا انها طويت برغبة من خامنئي. كان لاريجاني يقدم تقاريره عن المفاوضات الى المرشد، شأنه في ذلك شأن معظم أقطاب التيار المحافظ التقليدي، لكن قوة نجاد تكمن في تماهيه مع المرشد حتى لو لم يكن بعض خطوات هذا الأخير ملبياً لمصالحه وطموحاته.

بعد سقوط الحماية السياسية التي كان يرتكز اليها متقي، راح نجاد يمعن في تهميشه، وباشر ممارسة الديبلوماسية الخاصة والمرتبطة به، مركّزاً على نسيبه اسفنديار رحيم مشائي الذي أراد أيضاً تعيينه نائباً للرئيس لولا laquo;الفيتوraquo; الخامنئي، ومستعيناً ببعض المستشارين وأبرزهم مجتبى هاشمي سماره، وأيضاً هوشنك أمير احمدي الذي يعرف الولايات المتحدة جيداً ويقيم عملياً فيها، بل انه يعرف كـ laquo;رئيس للجنة الصداقة الإيرانية ndash; الأميركيةraquo;.

وفي عام 2007 أوفد نجاد مساعديه مشائي وهاشمي الى الرئيس الفرنسي جاك شيراك في مهمة تتعلق بالأزمة الناشبة آنذاك بين الحكومة اللبنانية والمعارضة. وعندما انتخب نيكولا ساركوزي بعد أسابيع، حاول الثنائي تجديد الاتصال معه. وعندما اعترض متقي على هذا التحرك من دون علمه يقال ان نجاد رد عليه بطريقة قاسية استوجبت مغادرته الاجتماع. وإذا كان مفهوماً ان الود منعدم أصلاً بين الرجلين، فإن الطريقة التي اختارها نجاد لإقالة وزير خارجيته خلت من أي احترام أو لياقة. وما لبثت الإهانة ان استُكملت عندما أقيمت laquo;حفلة وداعيةraquo; لمتقي من دون دعوته اليها، ولعله بقوله laquo;ان أسلوب إقالته مخالف للتعاليم الإسلاميةraquo; ظن أنه يوجب النقد الأقسى لمناوئيه، لكن يبدو انه لم يكن يعرف مع من يعمل.

قبل ذلك اتجهت العلاقة بين نجاد ومتقي نحو الحسم بعدما أقدم الرئيس على تعيين مشائي، ما غيره، موفداً خاصاً لشؤون الشرق الأوسط، وعلى رغم ان المرشد أعلن أنه لا يبارك هذه الخطوة، إلا أن الموفد واصل مهمته، وقبل نحو شهر سربت أنباء بأن نجاد على وشك التخلص من متقي، وبعد ثلاثة أيام أشاد خامنئي بالوزير مما عنى أنه لم يوافق على ما خططه نجاد. تزامن ذلك مع تصريحات غير مألوفة لوزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس الى صحيفة laquo;وول ستريت جورنالraquo; اتهم فيها الرئيس الإيراني بأنه يخفي الحقيقة عن المرشد في ما يتعلق بالانعكاسات السلبية للعقوبات. كان ذلك قبل انعقاد الجولة الأولى من مفاوضات جنيف بين دول مجموعة الـ 5+1 وإيران. بعد هذه الجولة يشهد الكثير من المعنيين المتصلين بأوساط الحكومة الإيرانية بأن ثمة جواً سياسياً جديداً مختلفاً في طهران.

للمرة الأولى توالت التصريحات الإيرانية لتقول ان المفاوضات كانت جيدة، وحده لاريجاني ظل انتقادياً للذهنية التي تدير بها الدول الكبرى مفاوضاتها مع إيران، والأرجح أنه لم يُحط علماً بفحوى ما جرى، أو ربما، على العكس، عرف ان تغييراً قد حصل مع جليلي وكان يتمنى لو أنه حصل أيام تفاوضه. في أي حال، استغل نجاد هذا التغيير مدركاً أن اللحظة حانت لربط المفاوضات التي ظلت حتى الآن تقنية بالديبلوماسية، ما يمكن تفسيره بأن مجموعة الـ 5+1 أتاحت هذه المرة لإيران أن تعرض وجهة نظر متكاملة، أي سياسية ndash; استراتيجية أولاً ثم نووية. ولعل هذا ما بدا مقنعاً أيضاً للمرشد الذي بارك اقالة متقي وتعيين صالحي مكانه، وليس معروفاً ما إذا كان علم مسبقاً بأن نجاد سيترك الرئيس السنغالي عبدالله واد يبلغ متقي أنه لم يعد وزيراً.

لم يكن نهج متقي سبباً لخلعه، وإنما كونه من خارج جماعة نجاد. فالأخير يشعر بأن ثمة نتيجة ستتحقق هذه المرة في المفاوضات، ولذلك فهو يريد أن يسجلها مع تداعياتها اللاحقة باسمه. فهي إما أن تساعده على إقناع المرشد بترشيحه لولاية رئاسية ثالثة، وهو ما يستلزم تعديلاً للدستور، وإما أن يكون مهّد لصالحي ليكون الرئيس المقبل الذي لا بد من أن يعتمد بدوره على laquo;اللوبيraquo; الذي يديره نجاد. وعلى رغم ان المفاوضات لم تثمر بعد، إلا أن طهران تبدو شديدة التفاؤل بأن جولة اسطنبول المقبلة ستوضح اكثر المناخ الذي ساد جولة جنيف.

كان متقي أقل سياسيي إيران تعبيراً عن التشدد، وهو أمضى سنواته في الوزارة محاولاً طمأنة دول الجوار الخليجي العربي وتبديد مخاوفها. لكن الخارج كان أكثر التفاتاً الى ما يصدر عن نجاد. وعلى رغم ان متقي يمكن أن يوصف بأنه يتمتع بشيء من laquo;البراغماتيةraquo;، إلا أن الأوساط الإيرانية القريبة من التغيير الحاصل في طهران تعتبر أن فريق نجاد، المتشدد ظاهراً، هو الذي يمثل البراغماتية والواقعية، خصوصاً بسعيه الى الاستئثار بالحكم، وكذلك بالبزنس. أما صالحي الذي بدا كمن يخرج من الظل فانطلق مباشرة الى تحديد أولويات توحي بأنها جديدة، لكنها بدت بدورها كأنها خرجت من أجندة ظلت حتى الآن محتجزة. فالانفتاح باتجاه السعودية وتركيا يعني ما يعنيه، كأولوية، وقد يكتسب صدقية إذا أرفق بمبادرات سريعة وهادفة خصوصاً في مساره السعودي، لأن العلاقة الإيرانية ndash; التركية تحسنت بإطراد وتجاوزت أكثر من اختبار.

يُنظر الى الموقف الإيراني غير السلبي من المساعي السعودية ndash; السورية لمعالجة الأزمة اللبنانية، على أنه من المؤشرات الإيجابية التي تستحق التسجيل. ومثلها الموقف من تسريبات laquo;ويكيليكسraquo;. لكن هذا النهج الانفتاحي لم يمس بعد جوهر المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها النظام. ولذلك سيبقى تحت المراقبة للتأكد من أن طهران لمست فعلاً تغييراً غربياً حيالها، ما يشجعها على ملاقاته بالمثل. سنرى بعد الجولة التالية من المفاوضات.