عثمان الماجد

راكمت قوى الإسلام السياسي منذ نهاية سبعينات القرن الماضي خبرات وفنونا متنوعة للتأثير في الرأي العام وإكسابه متبنياتها الفكرية وما يترتب على ذلك من الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فبعد أن أزاحت الفكر القومي، في بعض البلدان، عن قيادة الجماهير باعتباره مسؤولا عن الانكسارات والهزائم التي مني بها وأثقل بتبعاتها شعوبه والشعوب العربية الأخرى، وتحالفت معه في بعضها الآخر. أتيح لها مذّاك بسط هيمنتها وإحكام سيطرتها على المجالات كافة في الفضاء العربي.
وعلى إثر هزيمة العرب في الحرب مع إسرائيل في عام 1967، استغلت هذه القوى حالة الإحباط العامة من الوعود بإمكانية التغيير في جوهر قضية الصراع الأكثر مساسا بكيانية العرب وكرامتهم ووجودهم، وحلحلتها على طريق الحل النهائي بوعود أخرى تكون أكثر إيغالا في المجهول. وفي ظني أن الوهم هو القاسم المشترك بين وعود هؤلاء ووعود أولئك. ومنذ ذلك الحين باتت القضية الفلسطينية هي الإطار الأمثل الذي تتحرك ضمنه قوى الإسلام السياسي، فلم تجد ما يمكن أن تسيّر به الشعوب العربية وفق إرادتها، وترعب به الحكومات غير أن تشيع في المجتمعات العربية مقولة laquo;الإسلام هو الحلraquo;، إلى جانب الكثير من المقولات المستمدة من وحي المناخات الإيمانية لتسكت بها كل الأصوات التي يمكن أن تكون ذات تأثير ينافسها، وخصوصا تأثير الفكر القومي، واليسار في العموم.
ولقد تبين فيما بعد بأن هذه المقولات وتحديدا مقولــــة laquo;الإسلام هو الحلraquo;، ما هي إلا أداة لتسكين المجتمعات في حضرة التخدير الإيماني الذي من خلاله يتم بعث فكرة بناء الدولة الدينية وضرب كل فكرة تدعو إلى تأسيس الدولة المدنية. وتحقيقا لمآربها استغلت هذه التيارات الحريّات التي توفرها الدول للمنابر الدينية والإعلام المفتوح على مصراعيه لهم، في البلدان ذات النهج الديمقراطي laquo;الكويت والبحرين مثالاraquo; لسن قوانين تنقض مبادئ في الدستور مثل حرية التعبير والمعتقد.
وحتى المصادفة التاريخية التي أوقعت هزيمة العرب في العام 1967 على بعد عام واحد فقط من قيام ثورة الطلاب والعمال الفرنسيين في عام 1968 لم تكن لتقدم للقيادات العربية آنذاك دروسها البليغة في تغيير طريقة إدارة شعوبها، فقد أفرزت ثورة 1968 هذه ما أفرزته من متغيرات في مجريات الأحداث التاريخية الفرنسية بعد أن كشفت الاختلالات الاجتماعية المترتبة عن تقلص الطبقة الوسطى، واتساع طبقة الفقراء، وتدني أوضاع المرأة، وانعدام حرية التعبير، إلى جانب ما أحدثته من تغييرات مهمة في المزاج العام، الفرنسي والأوروبي، حتى طالت رغبة التغيير هذه تغيير شخص ديغول نفسه - القامة التاريخية التي لامس صيتها تخوم القداسة في الضمير الفرنسي والعالمي - نقول حتى هذه المصادفة التاريخية المهمة التي أحدثت ما أحدثته لم يكن لها أي تأثير في العرب بل بالعكس من ذلك؛ إذ أن هزيمة 1967 كانت بداية لحراك عربي نكوصي بامتياز، لجهة التكهف والانغلاق على الذات والرجوع إلى الماضي للخلاص من تبعات الأخطاء والخطايا التي مرغت فيها حكومات تلك المرحلة شعوبها في وحل المهانة. فلم تكن الهزيمة محرضا وحافزا لإعادة بناء العزيمة واستنهاض الهمم لتغيير أنماط الحكم السائدة والأخذ بالديمقراطية أسلوبا لإدارة الحكم.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما أدراك ما الثورة الإسلامية، إلى تبعات هزيمة العرب في الحرب مع إسرائيل، فإن المشهد صار يشي بوقوع الشعوب العربية والإسلامية بين كماشتي الإسلام السياسي السني من جهة والإسلام السياسي الشيعي من جهة أخرى، وطفح المجتمع بالسباق في سوق النصوص المتعصبة في أوساط الشعوب العربية والإسلامية. ولتضمن سلامة تمرير كل مشاريعها لم تتردد قوى الإسلام السياسي في تأسيس عرف تخيف به الحكومات والشعوب العربية معا، ألا وهو قذف كل من يقف في وجه ممارساتها الاستبدادية وفرض رؤاها العقائدية على كل البشر بتهمة التكفير والإلحاد والخروج عن الملّة. ووفق هذه المنهجية أتاحت لنفسها إمكانية نشر قراءتها وبث متبنياتها العقائدية، وانفتحت بذلك آفاق سباق محتدم غير مسبوق بين القوى المتعصبة في المذهبين تجلت مظاهره في بؤر الصراع مثل أفغانستان والعراق والصومال وغزة وجنوب لبنان، ناهيك عن انحدارات متوقعة لمجتمعات عربية وإسلامية أخرى باتت في متناول هذه التيارات تتقاذفها بنيرانها المتطرفة. إذن في ظل هذه الصورة المكتئبة والحزينة بدأ يسود نقاش مجتمعي تتفجر منه أسئلة بقيت نائمة تحت فوضى القيادة بحثا عن إجابات مقنعة حول قضايا حيوية من مثل: laquo;من وطّن الطائفية في مجتمعاتنا، إذا لم يكن الإسلام السياسي؟raquo; من زرع التطرف ونمّى الفكر الإرهابي وكرّه ذاك المختلف عنا في الدين وفي المذهب وفي العرق؟ إذا لم يكن دعاة المذهبية والطائفية.
السؤال المخيف هو هل أن سلوكات تيارات الإسلام السياسي بشقيه في البحرين وانشغالاتها الطائفية عن التطوير الديمقراطي لمؤسسات الدولة، وتمتين الوحدة الوطنية بإعادة حياكة خيوط النسيج الاجتماعي على أسس المواطنة، هي إرهاصات ذلك الانحدار؟ في اعتقادي أن على الدولة الحد من هيمنة الأشخاص المنتمين إلى جمعيات سياسية في المؤسسات الحكومية، وكذلك تخليص سلوكات الأفراد مما تؤسس له هذه التيارات وذلك بتعميق حقوق الإنسان والعمل وفق مبدأ المواطنة في أبعادها الكونية، وهذا في ظني جهد ينبغي أن تتشارك فيه الدولة مع مؤسسات المجتمع المدني لا محالة.