أسماء الحسيني


يوماً بعد آخر يتضح أن السودان ليس مقبلاً على كارثة انفصال جنوبه فحسب، كما كان الاعتقاد من قبل، فالمؤشرات تدل على أنه يتجه بخطى متسارعة نحو كوارث متعددة الأبعاد، متباينة الاتجاهات، قد تزلزل كيانه ومنطقته العربية بأسرها وقارته الأفريقية، ما لم يكن هناك تحرك استثنائي لمواجهة هذا الموقف الاستثنائي الذي يمر به السودان، البلد الاستثنائي في ظروفه وأهميته الجيواستراتيجية.

أثبتت تجربة السنوات الأخيرة فشل الحلول التجزيئية المطروحة لحل قضايا السودان وأزماته المتفجرة، بعدما أسهمت في تعقيد المأزق السوداني الذي أصبح الآن بحاجة إلى طرائق جديدة في التعامل معه، أكثر شمولية ومراعاة لمقتضيات واقعه، وبغير ذلك لن يكون انفصال الجنوب هو نهاية الطريق أو خاتمة المطاف. وأصبح واضحاً أن هناك مشكلات كبرى مستعصية في السودان كله لن يكون باستطاعة حزب واحد هو المؤتمر الوطني الحاكم الذي يتزعمه الرئيس السوداني عمر البشير حلها بمفرده، كما اعتاد أن يفعل على مدى 21 عاماً من حكمه، والطريق البديل للحرب والانفصال هو الطريق الجماعي لحل المشكلات، هو طريق الوفاق الوطني، الذي أطلق عليه الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، وصف laquo;الطريق الثالثraquo;، وهو طريق تؤيده غالبية الشعب السوداني التي تضع الآن أياديها على قلوبها خوفاً وشفقة على وطنها الذي سيتم تقسيمه، ويوشك أن يتآكل من أطرافه كافة، إذا ما استمرت المعطيات الراهنة من دون تعديل، وسلوك هذا الطريق ممكن إن صدقت النيات وتوافرت الإرادة، وعلى رغم أنه قد يكون الآن متأخراً جداً سيكون قادراً على صنع المعجزات. والبديل عن هذا الطريق المتحضر الذي يعتمد الحوار والتوافق الوطني الحقيقي سبيلاً لحل المشاكل سيكون كارثياً، وهو ما تهدد به أطراف عدة اليوم، تحمل المؤتمر الوطني والرئيس البشير المسؤولية عن انفصال الجنوب الذي صار متوقعاً، مع ما يحمله هذا الانفصال من احتمالات نشوب حرب أو اقتتال بين الشمال والجنوب، وتقطيع أوصال أخرى في كليهما.

وفي هذا السياق يمكن قراءة المهلة التي منحها الصادق المهدي لحزب البشير حتى يوم 26 من الشهر الجاري للاستجابة لهذا الطريق الثالث الذي يعني جلوس الأطراف الرئيسية في السودان للتوافق على حلول قضاياه أو سيكون، أي المهدي أمامه خياران، الخيار الأول هو الانضمام لمعسكر المواجهة مع النظام، والخيار الثاني أن يعتزل العمل السياسي لتأتي قيادة جديدة لحزبه تقود المواجهة.

وخيار المواجهة أصبح مطروحاً لدى جهات عدة في السودان، تراه يتجه الآن نحو هاوية سحيقة من المشكلات ليس فقط السياسية، بل أيضا الاقتصادية، إذ زادت حدة المشكلات الاقتصادية وارتفعت الأسعار في الخرطوم في الشهور الأخيرة ارتفاعاً كبيراً، ما أدى إلى زيادة الغضب الشعبي، وفضلاً عن الحركات المسلحة في دارفور التي تؤيد الدعوة للمواجهة، هناك أيضاً الدكتور حسن الترابي، رئيس حزب المؤتمر الشعبي، الذي دعا الجماهير السودانية إلى الانتفاضة، مؤكداً أن التقسيم قادم في غرب السودان وشرقه ما لم يتحرك الشعب السوداني الذي انتفض من قبل وأسقط نظامين عسكريين في عامي 1964 و1985، وهو يرى أن الشعب إذا أراد الحرية والمساواة والعدالة فإن قسمة الشراكة الوطنية في اتفاقية السلام يمكن أن تستمر ولا تنحل أو تنقطع وحدة البلد.

وجاءت تصريحات البشير التي أطلقها في ولاية القضارف أخيراً في شأن اعتماد دستور إسلامي في شمال السودان بعد انفصال الجنوب وإقامة دولة عربية إسلامية ليس فيها تنوع عرقي أو ثقافي، لتشعل المخاوف والهواجس والثورة لدى مختلف شرائح التنوع في السودان، سياسياً وثقافياً ودينياً وعرقياً وإثنياً حول مصيرها إذا انفصل الجنوب، واعتبرها كثيرون تصريحات مستفزة لهم أو غير موفقة في هذا التوقيت أو متضاربة مع تصريحات أخرى للبشير قبل أيام أعلن فيها استعداده للتنازل عن حصة الشمال من بترول الجنوب إذا صوت الجنوبيون لمصلحة الوحدة، بل ورآها كثيرون أنها منافية للإسلام ذاته الذي يقر بحق الاختلاف، وأن الله خلق الناس أمماً وشعوباً وقبائل ليتعارفوا، وأن مثل هذه التصريحات ستدفع بآخرين للسير على منهاج الجنوب والانفصال عن هذه الدولة التي لا تستوعب أبناءها.

هذه التصريحات الخطيرة من القيادات المعارضة عن المواجهة وضرورة إسقاط النظام تثير العديد من التساؤلات حول طبيعتها ومغزاها، وما إذا كانت تعبر عن توارد خواطر أم إحساس واحد بحجم المشكلات والتحديات، وما إذا كانت تعكس اتفاقاً ضمنياً أو حقيقياً على عمل ما، وهل هي تلويح من معارضة أصابها كثير من الوهن والاختراق أم إنذار حقيقي سيكون له ما بعده.

ومن المؤكد أن كثيرين داخل السودان وخارجه سيدركون اليوم أو غداً أن هذا laquo;الطريق الثالثraquo; وما ينبغي أن يفضي إليه من وفاق داخلي ومصالحات وتحول ديموقراطي واتفاق على تسوية وحل المشكلات القائمة، هو أقصر الطرق وأقلها كلفة، وهو السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة البلد، ولنقل السودان إلى مرحلة جديدة لا يكون فيه تحت وطأة الضغوط والابتزاز والترهيب من أي طرف كان، ودون ذلك الطوفان.