السيد ولد أباه

عندما مررت بباريس في الأسبوع المنصرم، كان الجدل دائراً بقوة حول اللقاء الحاشد الذي نظمته إحدى الجمعيات quot;اليمينيةquot; المتطرفة تحت شعار quot;منتديات الوقوف ضد أسلمة أوروباquot;. شاركت في اللقاء أحزاب وتنظيمات شتى من البلدان الأوروبية المختلفة، عبر باسمها quot;فابريس روبيرquot; رئيس quot;كتلة الهويةquot; في فرنسا بقولهquot;إن الرسالة التي نريد إبلاغها هي أن الإسلام خطر على العلمانية وعلى قيم الحضارة الأوروبيةquot;. أما quot;أوسكار فريسنجرquot; الناشط اليميني السويسري الذي كان وراء الاستفتاء الذي نجم عنه تحريم المآذن في بلاده، فقد اعتبر أن الإسلام انتشر في أوروبا بالاستفادة من quot;عقيدة التعددية الثقافيةquot; السائدة في القارة، مؤكدا أنها التهديد العميق للثقافة الأوروبية.

وما ذكره quot;فريسنجرquot; بحدة هو نفس ما نطقت به المستشارة الألمانية في حديثها عن quot;فشل خط التعددية الثقافيةquot; في بلادها، في إشارة واضحة إلى مأزق دمج المكون الإسلامي في المجتمع الألماني.

وقد تزامنت تصريحات quot;ميركلquot; مع صدور كتاب للقاضي quot;تيلو سرازينquot; بعنوان quot;ألمانيا التي تركض نحو خسارتهاquot;، حافظ خلال الأسابيع الماضية على صدارة مبيعات الكتب (مليون ونصف نسخة)، مع أنه مجرد كتاب ينضح بالكراهية والعنصرية المكشوفة.

من السهل إبراز الأمثلة المشابهة في بقية البلدان الغربية، فالشواهد بادية للعيان في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وهولندا على تنامي نزعة الخوف من الإسلام والعداء له.

من المألوف تفسير هذه الظاهرة المتنامية بعاملين بمحوريين هما: تأثير أحداث الإرهاب التي ارتبطت بمجموعات تستند للإسلام، وتأثير اللوبيات الصهيونية في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين في الرأي العام الغربي.

لا شك أن للعاملين أثرهما وتأثيرهما في ظاهرة الإسلاموفوبيا الجديدة، لكنهما لا يكفيان في تفسيرها. فالرأي الذي نذهب إليه، هو أن ما أصبح يسمى بـquot;المشكل الإسلاميquot; في المجتمعات الغربية له علاقة بنمط تسيير وإدارة المسألة الدينية- السياسية في مجملها.

فإذا كان وجود واندماج الجاليات المسلمة في أوروبا الغربية (تتركز في فرنسا وبريطانيا وألمانيا) وفي أميركا تطرح إشكاليات في الحقل السياسي، فالأمر لا يتعلق ndash; على عكس ما يظن ndash; بالتحدي الذي يطرحه هذا الدين quot;الجديدquot; على النظم العلمانية القائمة، من حيث كونه عصياً على استيعابها.

فكل الدراسات الميدانية التي استهدفت الجاليات المسلمة تفيد أنها مندمجة في النسيج المجتمعي لبلدانها، وأن ممارستها لتدينها لا يحول بينها والتأقلم مع القوانين المسيرة للشأن الديني. وحتى حالات النقاب الممنوع في المجال العمومي في بعض البلدان ظلت محدودة للغاية، فضلاً على أنها لا تعكس في الغالب أي نزوع عدواني أو موقف راديكالي من المجتمع.

بيد أن الحضور الإسلامي في جانبه الديني الشعائري وجانبه الأهلي (رابطة الانتماء الجماعي) وجهّ النظر إلى التحديات التي تعرفها راهناً النظم العلمانية الغربية بعد قرابة قرنين من تجربة إدارة المسألة الدينية- السياسية.

يتعلق الأمر هنا بتجارب شديدة التنوع بحسب السياقات المحلية، تلتقي في عنصر ثابت أوحد هو الفصل القانوني والمؤسسي بين دائرة الاقتناع الفردي والمجال العمومي المشترك. فالدين من حيث هو عقيدة مكانه الدائرة الأولى، أما الدين كهوية وثقافة وانتماء فقد حافظ في بعض التجارب على بعض التبني والحماية.

وعلى العموم، افترقت التجارب الغربية في إدارة المسألة الدينية السياسية إلى نموذجين كبيرين:

- النموذج العلماني الجمهوري الذي اختصت به فرنسا تقريباً، وأساسه هو الفصل الجذري بين الدين والدولة من حيث هي تجسيد لرابطة الانتماء العضوي للمجموعة (الأمة)، التي تعبر عن نفسها في شكل قوانين كلية قادرة على صياغة القيم الجماعية الضابطة لمختلف شؤون المجتمع. وكان quot;أليكس دي توكوفيلquot; قد اعتبر منذ القرن التاسع عشر أن الثورة الفرنسية امتصت الجانب الإطلاقي الأحادي في الديانة الكاثوليكية، مما يفسر طابعها الراديكالي إزاء الدين. فكانت السمة المميزة للعلمانية الفرنسية هي الموقف العدائي من الدين، بالرهان على قدرة quot;الجمهوريةquot; على تعويضه.

النموذج الأنجلوساكسوني- الألماني الذي ارتبط بحركة الإصلاح الديني المقترنة بالمشروع التنويري، في مجتمعات طبعتها منذ القرون الوسطى التعددية الدينية. فالنظم العلمانية في هذا النموذج تميزت بخاصيتين: تكريس حقوق التدين الفردية والجماعية في نطاق منظومة القيم الليبرالية الحديثة والاحتفاظ بنمط من الشرعية الدينية العامة إطاراً للهوية وقاعدة مرجعية معيارية (مما هو واضح في الدستورين الألماني والأميركي، وفي الأعراف البريطانية حيث الملكة رئيسة للكنيسة القومية).

إلا أن النموذجين تعرضا خلال السنوات الأخيرة لتحديات صعبة. فالنظام quot;الجمهوريquot; تنخره شتى أشكال التعددية والتنوع التي أضحى عاجزاً عن احتوائها. وليس quot;المشكل الإسلاميquot; سوى المظهر الأبرز لهذه الأزمة المتولدة عن انحسار وتراجع quot;الديانة المدنيةquot; التي راهن الفيلسوف quot;روسوquot; عليها بديلاً عن الديانات السماوية. ومن الخلف تحميل الجاليات المسلمة مسؤولية هذه الأزمة، التي تتجلى في بروز هويات خصوصية ومجموعاتية عديدة تطالب بحقوق الاعتراف باسم القيم الليبرالية التعددية.

أما النظام الليبرالي ndash; التنوعي، فلئن كان أقدر على احتواء أشكال التعددية الدينية الجديدة، إلا أنه يصطدم بمعطى آخر هو انتقال الديانات من السجل العقدي الشعائري إلى السجل الثقافي، بما يعنيه من نكوص للهويات الانعزالية الضيقة. فالإسلام من هذا المنظور، يحول من دين كوني له حق الاعتراف والتمثيل إلى ثقافة غريبة وافدة تشكل خطراً على النسيج الاجتماعي.

ما غاب عن الجميع، هو أن المشكل هنا ليس الإسلام، ولا الجاليات المسلمة، بل النظم العلمانية التقليدية التي تعاني من أزمة حادة يقر بها كل كبار الدارسين الاجتماعيين الذين بدؤوا يطرحون خيارات جديدة لمعالجتها.

فهذا quot;هابرماسquot; يدعو إلى ضرورة رجوع الدين للمجال العمومي التعددي بصفته معيناً قيماً للإسهام في حل الإشكالات المجتمعية الحالية، وذاك الفيلسوف الكندي quot;تشارلز تايلورquot; يطرح مفهوم quot;العلمانية التنوعيةquot;، التي يقتضيها واقع التعددية الثقافية الذي أبرزه الوجود الإسلامي الجديد في الغرب، وإنْ لم يكن مظهره الوحيد.