شريف عبدالغني

قبل عدة سنوات قررت أن أكون من أصحاب السيارات لأول مرة في حياتي، ولأن ما معي من مال كان يكفي بالكاد لشراء سيارة مستعملة، فقد لجأت لأحد تجار هذا الصنف في قريتنا، وهو مع أقرانه خليط من ذوي العقول الفارغة الذين لم يفلحوا في أي مهنة، لكنهم وجدوا ضالتهم في تداول السيارات القديمة، وحققوا من ورائها أرباحا كبيرة دون أدنى مجهود أو إجهاد للعقل، ومن يقع تحت أيديهم لا بد أن laquo;ينصبوا عليهraquo; مستغلين عدم خبرة البعض من أمثالي بفنيات السيارات، فيبيعونها بأعلى كثيرا من سعرها الحقيقي بعد أن يقسم لك laquo;يمين طلاق ثلاثةraquo; أنه لم يكسب من ورائك، وأنه يكفيه أن يتعرف على شخصية محترمة مثلك. وبعد أن تسير بالسيارة لمدة أسبوع تكتشف أن عمرها الافتراضي انتهى، وأنك laquo;شربت مقلبا محترماraquo;. ولأن ما تأتي به الرياح تطيره الزوابع، فإن معظم هؤلاء التجار يدمنون المخدرات ويصرفون ببذخ في أمور تافهة ليس من بينها أبداً أعمال الخير.
لكني فوجئت ذات مرة بأحدهم يتصل بي، ويقول إنه يحتاجني في أمر مهم لا يحتمل الانتظار. انتابني القلق وسألته عن هذا الأمر، فقال وقد عاش في دور قيادي في تنظيم laquo;القاعدةraquo;: laquo;تعرف إن عزيز المسيحي قرر إنه يشتري أحد المنازل أمام بيتي، وسيهدمه ليبني مكانه كنيسة.. وده طبعا شيء لا يمكن السكوت عليه؟raquo;.
- طيب وإيه المطلوب مني؟
- إحنا بنجمع فلوس عشان نشتري البيت ونبني مكانه جامع.. لأنه لا يمكن نسمح لواحد زي ده ينتصر علينا.. ولازم تتبرع معانا بأي شيء.
ولأني لو شرحت له وجهة نظري في هذا الموضوع، ورفضي للمنطق المعوج الذي يتحدث به، فضلا عن استحالة أن يكون هو نفسه صاحب دعوة نصرة الدين، فإنه لن يفهم ما سأقوله وقد يتهمني بغشم بالخروج عن الملة ونصرة laquo;الأقباط ولاد ستين في سبعينraquo;، ولذلك اعتذرت له على وعد بلقائه قريبا.
وبعد فترة التقيته بالصدفة، وقد تم بناء المسجد بالفعل، وراح يتحدث بزهو عن الانتصار الكبير الذي حققه على المسيحيين في القرية، قبل أن يستكمل النصب على الناس -أيا كانت ديانتهم- بسياراته الرديئة، دون أن ينسى نصيبه من سهرات laquo;المزاجraquo;.
ما يفعله هذا الرجل ومن هم على شاكلته هو سر أزمة الاحتقان في مصر بين laquo;عنصري الأمةraquo; حسب وصف الصحف القومية، فكلاهما يرفع شعار laquo;واحدة بواحدةraquo;.. كلمة ترد على كلمة، وسخرية تواجه سخرية، وعنف ضد عنف، ومسجد أمام كنيسة. فلا تكاد تبنى كنيسة جديدة حتى تجد مسجدا مقابلا لها فورا.
ففي مدخل طريق المحور الشهير بالقاهرة وعند نهاية ميدان لبنان بحي المهندسين، كانت أبرز ملامح المنطقة كنيسة تضيء أنوارها الليل في وداعة، ووفقا للمنطق المشار إليه فقد انتصبت مئذنة جديدة بمواجهة الكنيسة مباشرة رغم وجود عشرات المساجد القريبة.
في مصر ارتفع عدد الجوامع بشكل يدعو للدهشة، وزادت أعداد المصلين بطريقة تثير التعجب. أما مبعث تلك الدهشة وذلك التعجب أن هذه الزيادة لم تترجم إلى سلوك حقيقي وحسن معاملة للغير، فالرشاوى منتشرة على أشدها لتصبح طقسا يوميا عند المصريين، في ازدواجية مقيتة بين التدين الظاهري والخواء الداخلي. ولأن كل فعل له رد فعل مساوٍ في المقدار ومضاد في الاتجاه، فقد ازداد قطاع من المسيحيين تزمتا وتطرفا، ويحاول بعضهم التحايل على القوانين ببناء مراكز إدارية ثم تحويلها إلى كنائس، وهو ما حدث في الأزمة الأخيرة التي أودت بحياة اثنين من الأقباط وجرح عدد من أفراد الشرطة في اشتباكات متبادلة.
لم يفكر أي عاقل أننا نحتاج هذه الأموال لبناء مدارس ومستشفيات ومشروعات خدمية ستكون أكثر نفعا للناس، كفانا الموجود من المساجد والكنائس، رغم اعترافي بصعوبة الحصول على تصاريح بناء دور عبادة للمسيحيين، لكن الصلاة يمكن تأديتها في أي مكان، وسيتقبلها الله -لو كانت مخلصة- سواء أقيمت في مبنى فخيم أو على الأرض الجرداء.
لهذا كله سعدت بالتصريح الأخير لرجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس الذي قال بشجاعة: laquo;لا نحتاج كنائس أو مساجد بل مدارس ومستشفياتraquo;. ودخل الرجل بجرأة إلى المناطق الشائكة في علاقة المسلمين والأقباط بإبداء تعجبه laquo;من حجم الضجة التي أحدثتها واقعة ما قيل عن علاقة حب بين زوجة قسيس وأحد المسلمين. هي حرة وربنا اللي بيحاسب. هذه قضية كان ينبغي للكنيسة ألا تتدخل فيها، وكان من الأفضل أن تترك الزوجة تخرج على الناس وتقول الحقيقة، لأن أمن هذه السيدة ليس مسؤولية الكنيسة لكي تخفيها عندها ولكن مسؤولية أجهزة الأمنraquo;.
ساويرس -القبطي- نموذج محترم للشخصية العامة، الذي لا يخشى أبداً من إبداء رأيه في كل ما تمر به مصر، ولم يُضبط يوما مثل كثيرين من نجوم البزنس ينافق أي مسؤول حرصا على مصالحه، بل يتحدث عن ضرورة التغيير: laquo;لا بد أن يأتي يوم حتى ولو بعد عشر سنوات نشهد فيه انتخابات حرةraquo;. وعندما سأله أحد رجال الأعمال عن عدم ترشحه في مجلس الشعب قال laquo;وهل ترضى لي؟raquo;، في إشارة ذكية عن رفضه لأسلوب البلطجة الذي ظهر بشكل فاجر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ورغم عدم حبه لعبدالناصر، فإنه لم يبخسه حقه، مؤكداً أن الزعيم الراحل laquo;كان عامل هيبة لمصر أمام العالمraquo;!!
ويبقى قول ساويرس -الذي لم يرد اسمه في أي قضايا فساد مالي- بأننا لسنا في حاجة إلى مساجد وكنائس وإنما الأهم بناء المدارس والمستشفيات، كتشخيص معبر جدا عن أزمة مصر الحقيقية. وعلى عقلاء هذا الوطن أن يسألوا أنفسهم: هل الأجدى فعلا إقامة المزيد من دور العبادة، أم بناء إنسان حقيقي مكتمل تعليما وصحة؟