محمد حسين اليوسفي

بثت قناة laquo;العربيةraquo; الفضائية خبراً (مساء الأربعاء ‬22 الجاري)، حول حكم أحد القضاة في المدينة المنورة بتفريق زوجين لدعوى رفعها أحد أبناء عم الزوجة على زوجها، وذلك لعدم كفاءة النسب، رغم رضاها ورضى أشقائها عن ذلك الزواج، ورغم أيضا أن الزوجين قد رزقا بطفلين! ثم أتبعت ذلك بنقاش مع أحد المشايخ المتنورين، الذي طالب السلطات بالتدخل ووضع تقنين لأحكام الأحوال الشخصية، وجعل الدين عنصر الكفاءة المعتبر، والتخلي عن الأوصاف الأخرى للكفاءة، من قبيل النسب وغيره، التي تتنافى مع روح الإسلام أولاً وروح العصر ثانياً.

والكفاءة لغة؛ المساواة، واصطلاحاً؛ أهلية الرجل للزواج من المرأة، كما يقول الدكتور عبد السلام الترمانيني في كتابه الشيق laquo;الزواج عند العرب في الجاهلية والإسلامraquo;، والذي نشره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت في أغسطس عام ‬1984، والذي أيضاً أدرس شطراً منه لطلبتي في مادة التدرج الاجتماعي. والترمانيني أستاذ متميز في علم القانون، وله مؤلفات عديدة رائعة، وقد شغل منصب وزير الداخلية في سوريا، ثم دَرَّس في جامعة الكويت في فترة السبعينات والثمانينات.

يقول الترمانينيlaquo; لما جاء الإسلام وضع معياراً جديداً للكفاءة، مستمداً من مبدأ استحدثه وهو الإخاء بين المؤمنين والمساواة بينهم، فأحل بذلك الرابطة الإيمانية بالرابطة النسبية وكل وصف آخر للكفاءة. وقد تقرر هذا المبدأ بقوله تعالىraquo; {إنما المؤمنون إخوة}، وبذلك أصبح المؤمنون متساوين في الحقوق والواجبات، ولا يتفاضلون إلا بالتقوى. وقد تأيد هذا المبدأ بقوله تعالىraquo; {إن أكرمكم عند الله اتقاكم}. وعلى أساسه وضع النبي صلى الله عليه وسلم معيار الكفاءة في النكاح فقالlaquo; {إذا جاءكم من ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.

وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً في تطبيق هذا المبدأ، حينما زوج مولاه زيد بن حارثة من ابنة عمته زينب بنت جحش ابن رئاب ابن خزيمة وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم. وكذلك طيب خاطر المقداد بن الأسود، حينما رفض عبد الرحمن بن عوف أن يزوجه بنته، فزوجه الرسول ابنة عمه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب.

وفي العصر الأموي، يواصل الترمانيني، ظهرت الطبقات الاجتماعية، ومعها العصبية العربية التي هدمها الإسلام، وظل الإسلام هو العنصر الأساسي في الكفاءة، ولكنه لم يعد العنصر الكافي. فقد تميزت قريش من العرب، وتميز العرب من بقية الأجناس التي أطلق عليها وعلى من تحرر بالعتق منها اسم laquo;المواليraquo;، وظهرت فروق في مراتب النسب بين العرب أنفسهم، على نحو ما كانوا عليه في الجاهلية.

من ذلك أن الحجاج بن يوسف الثقفي عقد زواجه على أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان الحجاج والياً على الحجاز آنئذ، فلما بلغ ذلك الخليفة عبد الملك بن مروان، غضب غضباً شديداً، فقد غاظه أن يتزوج الحجاج ابنة هاشمية قرشية (على ما بين بني أمية وبني عبد المطلب من خلافات تاريخية)، فأبرد إليه وكتب يغلظ له القول ويقصر به ويذكره تجاوز قدره، ويقسم بالله لئن هو مسها ليقطعن أحب أعضائه إليه، ويأمر برد المهر وتعجيل فراقها. ونزل الحجاج عند أمر الخليفة وطلق أم كلثوم ولم يمسها، فما بقي أحد من قريش إلا سره ذلك، وقال جعفر بن الزبير شعراً جاء فيهraquo;

أبنت المُصفّى ذي الجناحين تبتغي لقد رمت خطباً شأنه ليس يوصف!

وفي العصر العباسي ازداد عنصر الموالي كثرة بدخول شعوب كثيرة في الإسلام، وقوي مركزهم وخشي العرب أن ينالوا العربيات بكفاءة المساواة في الدين، فاشترطوا الكفاءة في النسب، واشتد الخليفة المنصور في ذلك، حتى إنه أمر ألا تزوج مَنَافية إلا من مَنَافي (أي من آل عبد مناف، وهم صميم قريش). ويواصل الترمانيني قائلاًlaquo; وشاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث يقول: laquo;قريش بعضهم أكفاء لبعض، بطن ببطن، والعرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجلraquo;. ولم يعتد رجال الحديث بهذا الحديث، ولا بغيره من الأحاديث التي تناقض المبدأ الذي أقره النبي في جعل الكفاءة في الزواج متوافرة في الخلق والدين.

إن رسوخ نظام الطبقات الاجتماعية، واختلاف الحرف والصناعات في العصر العباسي وما تلاه من عصور، جعل كثيراً من الفقهاء يصرون على كفاءة النسب، ويضيفون عليها أوصافاً وشروطاً أخرى؛ كالحرفة، والحرية، واليسار، والحسب، والسلامة من العيوب. وقد اعتبروها شروطاً لازمة يجب أن تراعى في الخاطب وقت إنشاء العقد. إضافة إلى ذلك، فقد راعى هؤلاء في تقرير أوصاف الكفاءة؛ العرف، فكل ما يجلب المعرة للمرأة وأسرتها، يعتبر وصفاً في الكفاءة وشرطاً لازماً في العقد.

وحسناً فعل المشرع الكويتي في قانون الأحوال الشخصية الذي صدر في العام ‬1984، حينما ذهب في مادته الخامسة والثلاثين إلى القول إن العبرة في الكفاءة بالصلاح في الدين، تاركاً الأوصاف الأخرى التي لا تستقيم مع الإسلام ولا تساير روح العصر.