وليد شقير


تحلّ الذكرى الخامسة لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في ظل تحولات سياسية كبيرة شهدتها المنطقة ولبنان وفي ظل ثوابت وحقائق يستحيل تغييرها. فالتحولات ماثلة للأعين، بدءاً من انطلاق قطار المصالحات العربية خلال السنة الماضية، مروراً بالتغييرات الحاصلة على الصعيد الدولي منذ التغيير الحاصل في الإدارة الأميركية، وصولاً الى انعكاس كل ذلك مصالحات في لبنان ومصالحة بين القيادة السورية ووريث الرئيس الراحل رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري خلال زيارته دمشق قبل شهر ونصف الشهر.

تشق التحولات ومفاعيلها طريقها تارة ببطء وأخرى في سرعة، لتجعل من خلط الأوراق مسألة دقيقة تحتاج الى متابعة دؤوبة خصوصاً انها تشهد تغييرات في التحالفات، من دون ان تتضح معالم التحالفات الجديدة أو ترسو على معادلة واضحة. إنها مرحلة انتقالية بين حقبة من الصراع السياسي ndash; الأمني المحلي والإقليمي والدولي، وبين حقبة أخرى يختلط فيها النزوع نحو التسويات والحوارات التي يشوبها عض الأصابع أحياناً والتموضع الجديد أحياناً أخرى، ومراجعة الحسابات وسلوك المرحلة السابقة بأخطائها وإصاباتها وإخفاقاتها ونجاحاتها.

إلا أن الذكرى نفسها، مثلما تستدعي التوقف عند مشهد التحولات الذي تتم في ظله، تفرض أيضاً الوقوف عند ما هو ثابت فيها ومن حولها. ومن الثابت ان الموجة الجماهيرية الكبرى التي أطلقها اغتيال الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005 أصبحت قاعدة لتغييرات كبرى حصلت بدءاً من الانسحاب السوري من لبنان وصولاً الى تعديل في السلطة السياسية في لبنان منذ ذلك التاريخ. وبات الجمهور العريض الذي صنع أحداثاً لا تحصى على مدى السنوات الماضية، ثابتاً، حتى إشعار آخر. وهو سيبرهن عن ذلك يوم الأحد المقبل بملئه الساحات مرة أخرى بناء للدعوة الى التجمع الشعبي في الذكرى. فهذا الجمهور على رغم التغييرات في التحالفات، بقي أكثرياً، مثلما برهن في كل سنة في مثل هذا التاريخ، وفي الانتخابات النيابية الأخيرة ومناسبات عدة، وعلى رغم تخويفه وترهيبه في حالات كثيرة بالاغتيالات والتفجيرات واستنفار الغرائز، التي أدت الى ردود فعل عكسية جعلته يتجاوز الخوف. ومع الحضور الكثيف للموروث من الصراعات الطائفية والمذهبية التقليدية في صفوف هذا الجمهور، فإن أهميته كثابتة في الحياة السياسية اللبنانية خلال السنوات الماضية تكمن في انه ظل جمهوراً متنوعاً يعبّر عن التوق الى العودة الى لبننة حقيقية للسلطة اللبنانية بعدما خضعت على مدى 3 عقود لإدارة سورية مباشرة لها بتفويض إقليمي ودولي.

وإلا ما الذي يدفع هذا الجمهور الى النزول مجدداً الى الشارع بكثافة، على رغم التحولات السياسية الحاصلة وعلى رغم التسويات والمصالحات وعلى رغم التغييرات في التحالفات، على غموضها حتى الآن؟

لقد صنع هذا الجمهور رمزية الحريري الأب بعد الزلزال الذي أصاب لبنان كنموذج لمحاولات كثيرة من اجل إقامة الدولة في لبنان على أساس التسويات بين مكوناتها الداخلية، وكتجربة لما يمكن ان يقود إليه الاعتدال في السعي الى التوفيق بين تخلف النظام الطائفي وبين الحاجة الى عصرنة بنى المؤسسات، وكظاهرة توفق بين الحاجة الى قدر من الاستقلالية والسيادة وبين عروبة مستنيرة ومصلحة البلد في التعاطي الإيجابي مع محيطه الإقليمي.

ومثلما صنع هذا الجمهور المتنوع رمزية الحريري الأب، كان العامل الرئيسي، الى عوامل أخرى، الذي صنع زعامة الحريري الابن وقاده الى رئاسة الحكومة مكان أبيه، وحمله على اختزال خبرة سنوات وعلى التحلي بصبر quot;أيوبquot; كما كان يقول الأب، وعلى تغليب الحكمة على الانفعال وتكرار مغامرة حكم البلد المليء بالتناقضات وعلى توسل الاعتدال بحثاً عن التسويات... إنه جمهور يدفعه الى الثقة بأن المراهنة على قيام دولة ممكنة، إذا أراد الاستناد الى قاعدة واسعة في المجتمع.

إذا كانت التحولات التي تحيط بالذكرى تدفع بعض القوى المشاركة فيها الى المزيد من المراجعة لبعض المبالغات السابقة، فإن الثوابت التي ترافقها يفترض ان تدفع القوى التي خاصمت الأطراف التي حملت الذكرى على أكتافها خلال السنوات الخمس الماضية، الى التجرؤ هي الأخرى على مراجعة أخطائها ومبالغاتها، وهو ما لم يحصل حتى الآن، على رغم التحولات الكثيرة.