أسامة الرنتيسي

الاستعراضات الإيرانية لا تتوقف.. مرة بالتصريحات النارية، ومرة باحتلال الشوارع والساحات لإقامة تظاهرات مؤيدة لرئيس لم تحسم شرعيته شعبيا بعد، مذكِّرة بأن الثورة التي بلغت سن الرشد (31) عاما لا تزال تتقدم، رغم ما أصاب بنيانها من شيخوخة، وثوابتها من اهتزاز، وأجندتها من تبعثر.
لم يضغط أحد على الرئيس محمود أحمدي نجاد ليطلب، في كلمة بثها التلفزيون الإيراني الرسمي في السابع من الشهر الحالي، من علي أكبر صالحي، رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية laquo;البدء بإنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20 %raquo;.
واعتبر نجاد في كلمته التي افتتح بها معرضاً مخصصاً لتكنولوجيا الليزر، أن laquo;المهلة التي أعطتها طهران للدول الكبرى، للتوصل إلى اتفاق بشأن تبادل اليورانيومraquo;، قد انتهت، وبات من حق إيران البدء في إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب، سعياً منها لإمداد مفاعل طهران للأبحاث الطبية بالوقود النووي الضروري.
وفي الوقت الذي كان نجاد يخطب أمام الآلاف من أنصاره الذين احتشدوا وسط طهران احتفالا بالذكرى الحادية والثلاثين للثورة الإسلامية، كانت قوّات الأمن وميليشيات الباسيج تقمع احتجاجات المعارضين. ووصل القمع إلى الاعتداء على حفيدة أبي الثورة الإمام الخميني وزعماء المعارضة مهدي كروبي والرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي.
لكن نجاد (الذي تشبه سحنته سحنتنا)، يكشف يوميا عن أن جيناتنا وصلت إليه بطريقة ما، فهو لم يتعلم الدرس من سنوات الضياع التي عشناها ونحن نصغي لخطابات كاذبة، وتهديدات ما لبث زبدها أن ظهر سريعا، فلا القاهر ولا الظافر كانا موجودين، ولا laquo;بالكيماوي يا صدامraquo; كان حقيقة، بل كله وهمٌ يشبه أحلامنا.
مهندس بلدية طهران، الذي يعرف كيف يخطط لتنظيم حملة لنظافة شوارعها، لكنه -أكيد- لا يعرف كيف يتم التخصيب، وقف أمام حشود حاشدة الخميس، وأعلن أن إيران دولة نووية، وأن الغرب جرثومة.. وأن من يسيطر على الخليج يسيطر على العالم.
البيت الأبيض، ولأنه يعرف صدق الكلام من كذبه، قال فور سماع هذا الكلام: laquo;لا نعتقد أن إيران لديها القدرة على التخصيب إلى الدرجة التي تقول إنها تستخدمهاraquo;، أي أن كلام laquo;صاحبناraquo; سياسي وليس علمياً.
نجاد أيضا لم يكن غير علمي فقط، بل كان أحول في قراءة امتداد الثورة إلى الخارج، كما قال، ففي اللحظة التي أعلن فيها ذلك، كان الحوثيون يلتزمون بشروط صنعاء، مما دفعها إلى وقف حرب مستمرة منذ أربع سنوات، لكن لا أحد ينكر أن القيادة الإيرانية لم تغفل هذا الهدف الذي أعلنته منذ قيامها؛ laquo;تصدير الثورةraquo;، فقد مدت أذرعها إلى لبنان ليصبح حزب الله شوكة في حلق إسرائيل، التي تسمّي الحزب laquo;فرقة عسكرية إيرانية متقدمةraquo;، كذلك لا تنفي إيران أن لديها عناصر، وليس خلايا نائمة، في الدول العربية والخليجية بالذات، تستطيع تحريكها متى شاءت، كما لا تنكر سيطرتها على اللعبة السياسية في العراق.
لكن نجاد (عنصر التأزيم في القيادة الإيرانية) لم يغلق باب الحوار نهائيا مع الغرب، حيث قال إن أي عملية تبادل لليورانيوم بين طهران والدول الكبرى laquo;يجب أن تكون غير مشروطةraquo;. وأوضح أن طهران باتت laquo;تمتلك القدرة على تخصيب اليورانيوم إلى أي مستوى، بفضل تكنولوجيا الليزر، التي أضيفت إلى تكنولوجيا التخصيب بواسطة الطرد المركزي المستخدمة حالياً في إيران لإنتاج يورانيوم ضعيف التخصيبraquo;.
التغيير الذي ظهر في الموقف الروسي خلال اليومين الماضيين ضيّق الخناق أكثر على طهران التي أصبحت الآن مكشوفة، إلا من الموقف الصيني، خط الدفاع الأخير عن إيران بشأن برنامجها النووي، إذ إنها ما انفكت تجدد رفضها فرض عقوبات إضافية عليها.
وفي خطابه الذي ألقاه في مؤتمر الأمن في ميونيخ، دعا وزير الخارجية الصيني يانغ جيتشي الغرب إلى التحلي بـ laquo;الصبر وإبداء موقف أكثر ليونةraquo;، معتبراً أن إيران laquo;لم تغلق الباب حول مشروع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتبادل اليورانيومraquo;.
وحضّ الوزير الصيني الأطراف المعنيين على laquo;تكثيف جهودهم الدبلوماسية، وإظهار موقف أكثر براغماتية وسياسة إيجابية، وألا تغيب عن بالهم مصالحهم العامة بعيدة المدىraquo;، وذكّر بأن laquo;الهدف يتمثل في السعي إلى حل شامل من خلال الحوار والمفاوضاتraquo;.
حتى الآن الفرصة لا تزال سانحة لمزيد من الحوار والمفاوضات بعد إعلان طهران البدء بإنتاج يورانيوم عالي التخصيب، رغم ما قابله هذا الموقف من استياء شديد في العواصم الغربية، حيث طالب وزير الدفاع الأميركي المجتمع الدولي بـ laquo;تشكيل جبهة موحدة للضغط على الحكومة الإيرانيةraquo;، ظهرت تجلياتها في تكديس أسلحة جديدة في المنطقة.
السياسة علّمتنا أن المفاوضات بين أي خصمين تتقدم رغم التصريحات النارية، وأن التصريحات المتشددة يكون خلفها وفي تفاصيلها دبلوماسية تمارس الضغط النفسي والسياسي من أجل تحقيق نتائج أسرع، وعلى هذا نراهن.