خالد الحروب

نقد أي قمة عربية قبل أو أثناء أو بعد انعقادها أسهل بكثير من محاولة تلمس إمكانيات نجاحها أو اقتراح بعض الأفكار التي تساعد على تحقيق ذلك النجاح. سجل القمم العربية الماضية يعزز مع الأسف واقعية التشاؤم، ويدحر الرغبة في التفاؤل إلى مربع التمنيات. قرارات وتوصيات كل قمة من القمم تنتهي بشكل أو بآخر مركونة على الرفوف التي تتنافس عليها ملفات ما لم ينجز مع ملفات ما لم يُناقش أيضاً. وهكذا يبقى من السهل إعادة تدوير ذلك النقد وربطه بآخر ما نرى من مستجدات لإثبات نظرية العجز. لكن إثبات عجز النظام العربي، وهو نقد مُستحق، بات مكروراً ومملاً، وقليل الإبداعية، ما لم يحفر في الأسباب بغية التأمل في إمكانيات التجاوز. والتحدي العملي في هذا السياق يتمثل في محاولة الحد من استمرار ذلك العجز وإيقاف تفاعلاته ومنعكساته أو إبطائها على أقل تقدير. ومن ضمنه أيضاً محاولة اكتشاف مواضع الإيجابية والقوة على رغم قلتها في هذا النظام وتعزيزها وتوسيعها ودفعها نحو اتجاهات تحقق المصالح والأهداف للأطراف المختلفة عوض أن تظل تروح وتجيء كحراثة البحر. بكلمة واحدة يصير الأفضل والعملي أن نحاول إيقاد شمعة حتى وإن لم نكبح جماح غضبنا المشروع الذي يواصل لعن الظلام!

الجامعة العربية والنظام العربي الحالي يعكسان المرحلة التاريخية التي يمر بها العرب خلال حقبة ما بعد نزع الاستعمار وبناء الدولة الحديثة. لا يمكن أن نتوقع من الأشكال التمثيلية لراهن مفكك وضعيف أن تكون صلبة وقوية. والواقع أن كلا من الشكلين laquo;الجامعة العربيةraquo; و laquo;النظام العربيraquo; ينطوي على تناقض ظاهري وجوهر صلب وواحد. laquo;الجامعة العربيةraquo;، أو بالأحرى laquo;جامعة الدول العربيةraquo;، أرادت أن تحتوي (ولا تنفذ) ولو شعاراتياً ولفظياً جزءاً من التوق العربي القومي والوحدوي الذي كان يسيطر على ثقافة النخب السياسية خلال الثلاثينات والأربعينات وعشية الاستقلالات الوطنية. لكن جوهر مشروع laquo;الجامعةraquo; كان في الواقع تكريس الافتراق، بمعنى ترسيخ السيادات الوطنية للدول الناشئة حديثاً والحاصلة على استقلالها. وانعكس هذا الجوهر على السجال حول اسم الشكل السياسي الذي تم الاتفاق أن يكون laquo;جامعة الدول العربيةraquo; وليس laquo;الجامعة العربيةraquo;. كان الخوف والشكل المتبادل، ولا يزال، بين النخب السياسية الحاكمة في الدول العربية الحديثة البروز هو أحد محددات صوغ السياسة الخارجية مع laquo;الأشقاءraquo;. بقية التاريخ معروفة حيث توغل ذلك الشك والخوف المتبادل على خلفية المطالب الوحدوية، الحقيقية والمزيفة، ثم تفاقم بتسارع في الخمسينات والستينات مع الاصطفافات الأيديولوجية خلال الحرب الباردة والعجز الكلي عن مواجهة إسرائيل، مخلفاً ما عُرف بـ laquo;الحرب العربية الباردةraquo;. وعلى ذات المنوال تم نسج مفهوم أو شكل laquo;النظام العربيraquo; إذ يحمل هو الآخر الشيء ونقيضه. فهو يعكس ويؤكد من ناحية وجود مشتركات بين الكيانات السياسية العربية ترفع من مستوى العلاقات البينية إلى درجة laquo;النظامraquo;. ومن ناحية ثانية يكرس استقلالية وسيادات تلك المكونات ويأخذ laquo;النظام العربيraquo;، بواقعية باردة وجافة، بعيداً عن التوصيفات الفضفاضة والوجدانية مثل laquo;الوطن العربيraquo;.

منذ نشوء الاستقلالات الحديثة وحتى الآن يمكن القول بأن الأجندة الأساسية التي استحوذت على اهتمام النخب السياسية الحاكمة في كل الأقطار العربية تمثلت في محاولة بناء الدول القطرية - الوطنية، وتكريس الكيانية المنفصلة، وترسيخ هوية محلية أو أحياناً تخليق واحدة، كل ذلك بعيداً من أحلام أو أوهام الوحدة. laquo;القضايا الكبرى والقوميةraquo; كانت تحظى دوماً بالاهتمام الأقل، وشكلت الجامعة العربية دوماً المكان الملائم لمناقشة تلك القضايا من باب أضعف الإيمان، وأحياناً كثيرة لدفنها. نعلم جميعاً أن ما نُظم في هجاء laquo;الدولة العربية القطريةraquo; يملأ مجلدات، لكنها مع ذلك صمدت وترسخت في شكل مدهش لا أحد يتمكن من تحدي وجودها الفعلي واعتبارها الوحدة التكوينية للنظام الإقليمي القائم. عملياً وواقعياً، إذن، كان ويكون الهم الأساسي المُسيطر على هذه الدول هو مصالحها القطرية في المقام الأول ثم بعد ذلك وبمسافة كبيرة تأتي أية أجندات أخرى. وهذه المسافة بين ما يستحوذ على اهتمام النخب العربية الحاكمة من ناحية فعلية ومباشرة وما يستحوذ على تفكير ورغبات شرائح واسعة من الرأي العام والمثقفين والجمهور واصلت الاتساع لأسباب عدة ليس هنا مجال مناقشتها. لكن أهم تلك الأسباب هو ضمور تعبير النخب الحاكمة عن المصالح الجمعية للشعوب التي تحكمها.

خلاصة كل ما سبق هي أن ما تقوم به الجامعة والقمم العربية يقع من ناحية نظرية وعملية في نهاية سلم المصالح القطرية والحقيقية للدول والنخب الحاكمة. فهذه المصالح تلاحق وتتابع بأسلوب أحادي ومن طريق تحالفات وسياسات غير جماعية، ولا تنتظر اجتماعات الجامعة العربية أو القمم العربية حتى تتحقق. بمعنى آخر هناك مستويان من النشاط السياسي العربي، واحد خاص بكل دولة والثاني جماعي عربي. السياسة الحقيقية الفعالة لأي دولة من الدول تتم على المستوى الأول، والسياسة الإرضائية والإعلامية والشعاراتية تتم على المستوى الثاني. وإذا كان هناك من جهد مطلوب هنا فهو يتمثل في محاولة تقليص المسافة بين هذين المستويين واجتراح أفكار ووسائل تجعل من العمل الجماعي العربي محققاً لأهداف كل دولة من الدول التي تشارك فيه، وليس عبئاً معنوياً وأخلاقياً وتضامنياً تشعر بسببه هذه الدولة أو تلك بثقل إضافي يرهقها ولا يفيدها. هل هذا معناه تحييد كل العناصر غير laquo;العمليةraquo; في صوغ السياسات الجماعية العربية، مثل مشاعر التضامن والأخوة والثقافة المشتركة وغير ذلك؟ ليس بالضرورة طبعاً، فهذه كلها تدعم تلك السياسات. لكن المقصود هو عدم الاتكاء عليها واعتبارها جوهر السياسة الجماعية لأن مثل هذا الاعتبار سيكون أجوف من ناحية عملية وإن بدا وكأنه صلب ومقنع من الخارج. فضلاً عن أن تضخيمه ينطوي على مخاطر كبرى شهدنا تعبيراتها العديدة خلال العقود الماضية حيث يخرج علينا هذه النظام أو ذاك، أو هذه النخبة السياسة أو تلك، برغبات توسعية باسم الأخوة مبنية على فرض تلك الأخوة والتوحد بها قسراً وجبراً.

دأبت القمم العربية على الانعقاد استجابة لأحداث كبرى تتطلب رداً عربياً جماعياً. ثم تطور الأمر في السنوات القليلة الماضية إلى الاتفاق على عقد القمم العربية في شكل دوري وسنوي، ومثل ذلك تطور إيجابي كبير. فهذا التطور عزز من مفهوم laquo;النظام العربيraquo; بمعنى وجود مشتركات ومصالح بين مكونات هذا النظام تتطلب اجتماعات ومتابعة دورية من قبل القيادات، وتستلزم صدور قرارات لا يملك صلاحيتها سوى هم. كما عملت laquo;دورية الاجتماعات السنويةraquo; على نفي السمة الاستعجالية وأحياناً الارتجالية لعقد القمم والمرتبطة تاريخياً بوقوع أحداث كبرى تفرض ردود فعل سريعة. ترافق ذلك التطور مع ترسخ القناعات بصلابة وديمومة laquo;الدولة العربية القطريةraquo; لدى النخب السياسة الحاكمة ولدى النخب الثقافية المتابعة والمهمومة بالشأن العام. وبذلك أصبحت القرارات التي تتخذها القمم على ضعفها وتدني مستواها عن توقعات ورغبات الرأي العام الواسع تعكس مصالح الدول والحكومات أكثر من السابق. بمعنى أن المساحة الواسعة التي كانت تُملأ بالشعارات والوعود التي لا يمكن تطبيقها، والتي كانت تُساق وتُدرج مع العلم المُسبق بعدم التمكن من تطبيقها، تلك المساحة صارت تضيق شيئاً فشيئاً.

في السياسة الدولية والعلاقات بين الحكومات ليس ثمة أصعب من العمل الجماعي والوصول إلى صيغ مشتركة تخدم مصالح كل الأطراف. وعندما تشير مصلحة كل طرف إلى اتجاه مختلف، فإن تلك الصعوبة تتضاعف. وفي حال غياب laquo;مُسيطرraquo; إقليمي وبروز التساوي الأفقي في الوزن السياسي فإن ذلك يعقد عملية الوصول إلى قرارات وأهداف متقاربة. الجامعة العربية والقمم العربية تشتغل في ظروف وبنى هيكلية هذه بعض سماتها ولذلك فإن تحميلها أكثر مما تحتمل ليس من الواقعية في شيء، وفيه رفع لأسقف التوقعات وسقوط في الإحباط الذي يلي. وهما رفع وسقوط نشهدهما مع انعقاد كل قمة جديدة.