نجيب الخنيزي

نجحت إسرائيل من خلال جهاز الموساد التابع لها في تنفيذ عملية اغتيال محمود المبحوح القيادي البارز في حركة حماس في 19 يناير الماضي، بعد يوم من وصوله إلى دبي متخفيا تحت اسم مستعار، كما تمكن فريق الاغتيال المكون من عدة مجموعات يحملون جوازات سفر أوروبية مختلفة من مغادرة دبي إلى جهات مختلفة من العالم بعد إتمام جريمتهم. إذن عملية الاغتيال تعد ناجحة ومكتملة من حيث شروطها واستهدافاتها ونتائجها المتوخاة. وكان يمكن أن تدرج العملية ضمن الإنجازات الباهرة لرئيس الموساد مئير دغان الذي كان يتمتع إلى ما قبل العملية الأخيرة بشعبية كبيرة لدى الإسرائيليين نظرا لنجاحاته المتميزة في العديد من المهمات laquo;القذرةraquo;، القضية كالعادة كانت ستحفظ (ضد مجهول / معلوم) على غرار العشرات من العمليات المماثلة في مسلسل التصفية والاغتيالات الذي لن ينتهي بحق قادة وكوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها، التي دأب الموساد على تنفيذها منذ تشكيله في سنة 1949 أي بعد سنة على قيام الكيان الصهيوني / العنصري في فلسطين. وفي العادة لا تخفي إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر مسؤوليتها عن تلك العمليات السرية، بل وتعده مصدر فخر واعتزار بقدرة أجهزتها الأمنية على اختراق تشكيلات ورموز المقاومة الفلسطينية في الداخل، وعلى تصفية من تعتبرهم خطرا على أمنها من القيادات والكوادر الفلسطينية، أين ما كانوا أو تحصنوا في الخارج، كما حصل في بيروت ودمشق وتونس ولندن وباريس وأثينا وقبرص وغيرها. السؤال هنا: لماذا سعت إسرائيل في أعقاب عملية الاغتيال الأخيرة في دبي إلى التملص منها وإنكار تورط الموساد فيها، وما هي التداعيات المتوقعة لتلك العملية في الداخل الإسرائيلي وعلى العلاقات الأوروبية/ الإسرائيلية على وجه التحديد؟ الحكومة الإسرائيلية التي وجدت نفسها مكشوفة ومحرجة أمام دول الاتحاد والرأي العام الأوروبي تنصلت ورفضت علنا تورطها في عملية الاغتيال رغم موقفها المكشوف إزاء ما توصلت إليه الأجهزة الأمنية في دبي، التي أثبتت حرفية ومهنية عالية مكنتها في وقت قياسي من كشف دقيق لمخطط الجريمة وعدد أفراد المجموعات المكلفة بالمراقبة والرصد وتنفيذ الاغتيال (28 شخصا حتى الآن) وجنسياتهم وجوازات سفرهم (الأوروبية) ومواقع انطلاقهم ووجهة مغادرتهم، وكيفية تمويلهم وأجهزة اتصالاتهم الخاصة. وفي المقابل فإن أقوال وتعليقات زعماء وشخصيات المعارضة والصحافة الإسرائيلية التي تطرقت بدون مواربة إلى الموضوع انقسمت بين محبذ أو رافض لها في ضوء تداعياتها السلبية وخصوصا لجهة العلاقات الإسرائيلية/ الأوروبية التي شابها أخيرا بعض التوتر في ضوء بعض التصريحات والمواقف الأوروبية الرسمية الخجولة حول خيار الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة حتى دون التوصل إلى اتفاق سلام شامل، إلى جانب تصاعد وتيرة الانتقادات الحادة لإسرائيل من قبل الرأي العام والمنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الأوروبية وخصوصا في أعقاب ما تكشف من مجازر وجرائم حرب ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، والتي كشف تقرير غولدستون الأخير وقائع ومعطيات مهمة منها. وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الذي التقى في بروكسل، بنظيره الأيرلندي، مايكل مارتي. وردا على سؤال حول مقتل المبحوح لم يملك سوى نفي وجود أية صلات مثبتة لإسرائيل في القضية، مضيفا أن بلاده لن ترد رسميا على هذا الملف ما لم تظهر معلومات إضافية تؤكد علاقتها. مضيفا أن هناك laquo;الكثير من الاتهامات المساقة ضد إسرائيل بالكثير من القضايا بسبب وجود ميل عام في الشارع العربي لإلقاء اللوم عليها في كل ما يحصلraquo;، غير أن زعيمة المعارضة في إسرائيل، امتدحت عملية الاغتيال ودعت العالم إلى دعم من يتصدى للإرهاب سواء كان جنديا أمريكيا أو بريطانيا أو إسرائيليا في غزة أو دبي. مضيفة أن: laquo;قتل إرهابي يعد خبرا سارا لمن يكافح الإرهاب بصرف النظر عن مكان قتله، وذلك وفقا للإذاعة الإسرائيليةraquo;.
الاتحاد الأوروبي من جهته أدان على لسان كاثرين أشتون المسؤولة المعنية بملف السياسة الخارجية عملية الاغتيال بقولها إن الاتحاد الأوروبي: laquo;يندد باستخدام جوازات سفر وبطاقات ائتمان جرى الحصول عليها بعد سرقة هويات مواطنين أوروبيينraquo;. غير أنها تجنبت في بيانها ذكر إسرائيل. كما نشير إلى أن دولا أوروبية عدة من بينها بريطانيا وفرنسا وإيرلندا وألمانيا، قد استدعت سفراء تل أبيب لديها لمناقشة القضية.
الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي المتواجد في زيارة للمنطقة سارع بدوره بالاتصال بوزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، ليبلغه laquo;إدانة فرنسا الواضحة والكاملة لاغتيال أحد قادة حماس في دبي وخاصة فوق أراضي دولة تعمل من أجل السلام والتقارب والتعاون بين الدول والشعوبraquo;. وقال ساركوزي إنه laquo;تم استدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلي إلى وزارة الخارجية الفرنسية بشأن استخدام جواز سفر (تبين أنه أكثر من جواز واحد) فرنسي مزيف وإنه لابد من انتظار انتهاء التحقيق لنعرف من يقف وراء ذلكraquo;. كما استدعت وزارة الخارجية البريطانية السفير الإسرائيلي في بريطانيا بهدف الحصول على توضيحات في شأن استخدام جوازات سفر بريطانية،
ومعرفة ما إذا كانت الحكومة الإسرائيلية ضالعة في القضية. السفير الإسرائيلي كان في موقف الدفاع ولم يملك سوى القول laquo;إنه لم يكن في استطاعتي إلقاء ضوء جديد على الأحداث قيد الحديثraquo;. وبأنه سينقل تلك الاستفسارات إلى حكومته. كما جاء في تصريح للإذاعة العسكرية الإسرائيلية منقول للسيناتور الإيرلندي مارك ديلي قوله: إن استخدام جوازات سفر إيرلندية مزورة laquo;يؤشر إلى بداية أزمة دبلوماسية معقدةraquo;.
وفي موازاة التحرك الأمني المميز لشرطة دبي التي عممت أسماء وصور المتهمين عبر الانتربول بغرض معاونتها في القبض عليهم وتقديمهم للعدالة، استدعى وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات أنور قرقاش سفراء دول الاتحاد الأوروبي لاطلاعهم على تطورات قضية الاغتيال وحثهم على مواصلة دعمهم وتعاونهم في عمليات التحقيق الجارية في هذا الشأن. كما أعربت الإمارات laquo;عن قلقها العميق إزاء إساءة استخدام الامتيازات التي تمنحها الدولة حاليا لحملة جوازات سفر بعض الدول الأجنبية الصديقة والتي تسمح لمواطني تلك الدول بحق الدخول إلى أراضيها من دون تأشيرات مما أدى إلى استخدام هذه الجوازات بطريقة غير شرعية في ارتكاب هذه الجريمةraquo;.
عملية الاغتيال سلطت الضوء على مدى الاختراق الإسرائيلي للوضع الفلسطيني الداخلي، حيث أشار قائد عام شرطة إمارة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة الفريق ضاحي خلفان، إلى ضلوع عنصر من حركة المقاومة الإسلامية laquo;حماسraquo; في عملية اغتيال القيادي في الحركة من خلال تسريب معلومات عن وصوله للبلاد. مؤكدا أن هذا الشخص، المعتقل حاليا لدى الشرطة في دبي، كان الوحيد الذي على علم بقدوم المبحوح، وسرب المعلومات، الأمر الذي يجعله laquo;القاتل الفعليraquo;. وردا على ذلك سارعت حماس إلى نفي تهمة الاختراق الإسرائيلي لصفوفها، ومتهمة السلطة الفلسطينية في رام الله بضلوعها في عملية الاغتيال عبر بعض عناصرها الأمنية، وهكذا بدلا من أن يكون الاغتيال مدعاة لرص الصفوف وإعادة اللحمة إلى البيت الفلسطيني المنقسم والمتصدع أصبح مادة إضافة للتصعيد وتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة. من الواضح بأن التمزق والصراع والتناحر الفلسطيني/ الفلسطيني على النفوذ والمكاسب والسلطة الوهمية في مناطق لا تزال تحت الاحتلال وذلك على حساب القضايا الوطنية الفلسطينية المركزية، هو ما يعطي المجال لإسرائيل كي تواصل عربدتها وتجاهلها الفظ لعملية السلام وللقرارات الدولية المعنية ومتطلباتها، واستمرار تعدياتها على البشر والحجر والشجر، وارتكابها لمزيد من القتل والاغتيال والتنكيل والحصار والتجويع وبناء وتوسيع الجدران العازلة والمستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.