إمحمد مالكي

مثَّلت الجزائر حالةً شبه فريدة في حركة الاستعمار التي عمّت مناطق كثيرة من العالم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والخمسين سنة الأولى من القرن الموالي له. والواقع أن فُرادة النموذج الجزائري لا تنحصر في quot;ليل الاستعمار الطويلquot;، الذي عَمَّر قرناً واثنتين وثلاثين سنة (1830 ـ 1962)، بل تتجاوزه إلى الشروخ العميقة التي تركت في مؤسسات الدولة والمجتمع على حدِّ سواء، وهي في كل الأحوال من الآثار السلبية جداً التي غدا عصياً على الجزائريين تضميدها، أو نسيانها ولو نسبياً، ومن يقرأ مذكرات quot;الجنرال بيجوquot;، الذي حكم الجزائر بالحديد والنار، يلمس عمق المأساة التي ألمَّت بهذه البلاد على الصُّعُد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبشرية. لذلك، ليس غريباً أن تظل مطالبة فرنسا بالاعتذار عما قامت به، والتعويض عن الخسائر الجسيمة التي طالت المجتمع برمته، موضوعاً متجدداً، وقضيةً محفزة على التكاتف والتضامن الجماعي بداخل مختلف مكونات المجتمع الجزائري.
فهكذا، يندرج ضمن هذا السياق مشروع قانون، المقدم يوم 13 شباط 2010، من قبل النائب quot;موسى عبدquot; من حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية، الذي تمت المطالبة بمقتضاه تجريم الاستعمار الفرنسي. فبحسب هذا المشروع، الموقع من لدن 125 نائباً من الائتلاف الرئاسي الحاكم، يستلزم الأمر من فرنسا الاعتراف بما اقترفته من جرائم في الجزائر، والاعتذار العلني والرسمي لكافة الجزائريين عن مرحلة احتلالها لبلادهم، بل ذهب مؤيدو المشروع إلى اعتبار هذا الإجراء خطوةً لازِمةً، وقاعدةً لا بد منها للتعامل بين البلدين. فممَّا ورد في بنود المشروع اشتراطه من السلطات الفرنسية quot;الاعتراف بكل الحقائق المدونة في الذاكرة قبل تطبيع حقيقي ونهائي للعلاقات الثنائيةquot;، كما شدد على ضرورة quot;استرجاع الأرشيف الذي أخذته الإدارة الاستعمارية عندما غادرت الجزائر بعد الاستقلال (1962)، ناهيك عن قضية إجراء التجارب النووية في الصحراء الجزائرية في 13 شباط 1960، ولاحقاً ما بين 13 تشرين الأول و27 كانون الأول من السنة نفسها (1960).
يُذكر أن موضوع الاعتراف بمآسي الاستعمار في الجزائر والمطالبة بالاعتذار عنها لم ترتبط بهذا المشروع فحسب، بل أثيرت قبل أقل من خمس سنوات، بمناسبة موافقة الجمعية الوطنية الفرنسية مطلع العام 2005 على قانون يقضي بوجود quot;جوانب إيجابية للحضور الفرنسي في بلاد ما وراء البحار، وبخاصة في شمال افريقيا..quot;. والواقع أن هذا القانون أعاد النقاش من جديد حول طبيعة quot;الكولونيالية Colonialisme، أي الحركة الاستعمارية، كما نشأت وامتدت وتطورت في القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين.
وحين تولى quot;نيكولا ساركوزيquot; سًدَّة الرئاسة قدم مقاربةً جديدةً لموضوع الاستعمار، واستعمار الجزائر على وجه التحديد. فالأمر بالنسبة إليه لا يتعلق باعتراف بالاحتلال وتقديم اعتذار علني عنه، بقدر ما يرتبط بفتح صفحة جديدة تطوي ذاكرة الماضي ومآسيه، وتتطلع إلى المستقبل، الذي يجب أن يُبنى بالتوافق، والاحترام المتبادل بين البلدين، أي فرنسا والجزائر، وفي هذا الصدد يفهمُ اقتراحه إبرام معاهدة صداقة بين الدولتين، والتركيز على المصالح المتبادلة بين الشعبين. لذلك، إذا كان مطلب الجزائر وجيهاً في موضوع الاعتراف بالاستعمار والاعتذار عن المآسي التي أحدثها للدولة والمجتمع في الجزائر، فإن الاستجابة إليه من الجانب الفرنسي تبدو، في تقديرنا، من الأمور التي تستوجب شجاعة كبيرة وجريئة، أكثر بكثير من شجاعة quot;سلام الشجعانquot; التي مارسها أبو الجمهورية الخامسة quot;الجنرال ديغولquot;، وقادت بلده إلى اتفاق أيفيان (1962) مع أقدم مستعمرة في تاريخ فرنسا الكولونيالي. وربما، من زاوية ثانية، إن الشجاعة مطلوبة من الجانب الجزائري أيضاً، كي تمكنه من صياغة عقد جديد للتعاون مع فرنسا، التي على الرغم من الشروخ المحفورة التي تركت في الذاكرة الجماعية للجزائريين، لا تبدو إمكانية معقولة لفُكاك الجزائر منها، ومن التعاون معها.