خالد الحروب

شهد الخليج العربي هذه الأيام ثلاثة معارض متزامنة للكتاب: في أبو ظبي، وفي مسقط، وفي الرياض. وقبل هذه المعارض وبعدها كان وسيكون مثلها - من الدار البيضاء والقاهرة إلى بيروت والدوحة. وفي هذه العواصم وسواها وربما من دون إستثناء ثمة جهود متزايدة وملحوظة في حقل الاهتمام بالكتاب سواء العربي أو المترجم أو حتى بلغته الأم. تشمل هذه الجهود مراكز ومؤسسات نشر وترجمة يتكاثر عددها باستمرار. وتشمل أيضاً بروز مبادرات حكومية وغير حكومية هدفها تشجيع الكتّاب المخضرمين منهم والجدد على التفرغ للإبداع. وبسبب هذا وغيره هناك اتساع تدريجي، ولو بطيء، في مساحة وعدد الكتاب المتفرغين للكتابة، بخاصة الإبداعية والأدبية، وهذا ما يجب أن يُرحب به ويُسند. ذاك أن احتراف الكتابة هو الأساس في مسألة ترقية مستويات النشر وتعميق التقاليد الكتابية ودفع صناعة الحرف إلى حدود متجددة من الإبداع. ويمكن القول أن فورة النشر والترجمة (الجزئية) التي تشهدها البلدان العربية ومعها تأسيس مراكز بحثية مختصة بالإثنين جاءت في قسم كبير منها استجابة إيجابية للنقد المرير الذي حملته تقارير التنمية الإنسانية العربية. فهذه التقارير ومنذ عام 2002 وهي تشير إلى الحالة الكارثية للكتاب العربي ولعادات القراءة في المجتمعات العربية.

بيد أن تلك الاستجابة، وعلى نسبيتها، ظلت تدور في حيز النصف الأول من الحلم بـ laquo;تطبيعraquo; عادات القراءة ونشر الكتاب ورفع مستويات الاهتمام به وتسويقه إلى متوسط الحال التي يتمتع بها في بقية دول العالم، وهو حيز النشر. أما النصف الثاني من ذلك الهدف فهو تحقيق القراءة فعلاً على مستوى عام من طريق التوزيع والتسويق. ما يتم طبعه من كتب، وعلى قلته رغم تزايد وتائره، ما زال يعاني من غبار التخزين والتمطي على الرفوف. وحتى تكتمل دورة النشر وإيصال ما يتم طباعته إلى الجمهور الواسع من القراء، الحاليين والمحتملين، لا بد من استكمال حلقة الطباعة بحلقة التوزيع والتسويق وتأمين الكتاب من ناحية الوفرة والسعر وسهولة الوصول إليه لغالبية الناس.

هناك مشكلات حقيقية تواجه صناعة النشر وآليات توزيع الكتب في العالم العربي. وما لم يتم تفكيكها أو تفكيك بعض منها فإن الكتاب والقراءة سيظلان ممارسة نخبوية محصورة في أوساط طبقات المثقفين والكتاب أنفسهم. بعض هذه المشكلات بنيوي ولن يحل إلا عبر مراحل طويلة الأمد، وأهم المشكلات الأمية المستفحلة ومعدلاتها المستعصية على الانخفاض المطلوب، بسبب ارتفاع معدلات الولادات وعدم قدرة الحكومات على استيعاب الأعداد الغفيرة من التلاميذ الجدد في سن الدراسة الإلزامية. والمشكلة الأخرى المنبثقة من ذلك هي عدم وجود سوق نشط للكتاب والتأليف بحيث تصبح صناعة الكتب والتفرغ للتأليف مربحة ومجزية من ناحية تجارية. فأي حل طويل الأمد ومستديم يهدف إلى تعزيز الكتاب والقراءة في البلدان العربية يجب أن يضع في قلب التخطيط وإن على المدى الطويل هدف خلق سوق للكتاب العربي. ولنا أن نفترض أن عدداً من العناصر تجعل من تحقيق هذا الهدف أمراً قيد المنال. فبسبب اللغة المشتركة من المفترض أن يحظى أي كتاب منشور في أي بلد عربي بسوق نظرية واسعة، من المحيط إلى الخليج حيث البنية التحتية اللغوية متوافرة.

بقية المعضلات تقع في إطار ما يمكن مناقشته ومعالجته على المستوى القصير والمتوسط. وفي مقدمة هذه المعضلات مسألة كلفة الكتاب وهي التي لا تتناسب مع متوسط دخل الفرد في معظم البلدان العربية. وهذا الأمر يرتبط أيضاً بمسألة خلق سوق فعالة للكتاب، كما أشير أعلاه. وهناك تجارب ناجحة للالتفاف على الكلفة العالية لإنتاج الكتب من طريق الدعم الحكومي لمشاريع نشر على نطاق شعبي (مثل مشروع مكتبة الأسرة في مصر)، أو دعم طلبة المدارس لشراء الكتب في معارض الكتب في دولة الإمارات، أو مشاريع كتب الجيب في أكثر من بلد عربي.

إحدى نقاط البداية في ذلك كله هي تعريف أوسع قدر من الجمهور بالكتاب المنشور. هذا التعريف يشكل حجر الأساس لاستثارة الاهتمام بالكتاب، ولقياس درجات ومستويات الجدوى الاقتصادية لهذا الكتاب أو ذاك بما يفيد الناشرين وينجح مشروعاتهم النشرية. وفي مسألة التعريف هناك الوسائل التقليدية من دعاية وإعلان وتواقيع كتب وندوات، وهناك راهناً وسائل حديثة أكثر تأثيراً وأوسع انتشاراً يجب استثمارها بكل طريقة. في الغرب الآن تنتقل صناعة الكتاب خطوات فلكية إلى مساحات مدهشة من التوزيع والتعريف بكل ما هو منشور. فبعد الكتاب الإلكتروني والكمبيوترات التي تخزن مئات الكتب أصدرت شركة laquo;أبل ماكنتوشraquo; جهاز laquo;آي بادraquo; الذي يعتبر ثورة حقيقية في عالم الكتب والنشر. ولن يمضي وقت طويل حتى يتم دمج هذا الجهاز مع جهاز الكمبيوتر الشخصي النقال والموصول مباشرة بالشبكة العنكبوتية، ما يعني أن أي فرد يكون متصلاً من ناحية نظرية بكل ما هو منشور من كتب على تلك الشبكة، وهو حجم هائل من الكتب على أية حال. لكن الوسائل الألكترونية هذه تظل فعالة في المجتمعات المتقدمة، أو في أوساط نخب ضيقة جداً في المجتمعات الفقيرة، ولا تخدم تعميم الكتاب على الوسط العام للجمهور.

الوسيلة الفعالة التي يمكنها بالفعل أن تحقق ثورة حقيقية في عالم نشر الكتب في العوالم الفقيرة وذات معدلات الأمية المرتفعة هي التلفزيون. هذه الحلقة التكنولوجية الوسطى (بين الراديو الترانزستور والإنترنت) هي التي تدخل كل بيت وتخاطب أفراده بغض النظر عن مستويات تعليمهم ودخلهم. يتابعها الجميع وتحظى باهتمام وأحياناً كثيرة إدمان الكثيرين. أستخدام التلفزيون في التعريف بالكتب من طريق برامج دورية تناقش ما نُشر حديثاً إلى جانب ما نُشر قديماً من كتب مهمة تحتل أمكنة بارزة في تاريخ النشر والفكر الإنساني ينقل laquo;مسألة الكتابraquo; إلى الفضاء الشعبي العام حقاً. وبقليل من الاهتمام الفني والتقني بحيث تخرج المادة التلفزيونية مشوقة وممتعة فإن عدد من يصلهم أي برنامج تلفزيوني يُعنى بالكتب يتجاوز أضعافاً مضاعفة أي عدد يمكن الوصول إليه بأية وسيلة أخرى. هذا فضلاً عن تنوع الشرائح التي يصلها البث التلفزيوني ويتجاوز النخب الضيقة وشرائح المثقفين المهتمين. وهنا يمكن القول أن برنامج laquo;الكتاب خير جليسraquo; الذي بثته قناة laquo;الجزيرةraquo; لسنوات عدة أسقط مقولات مسبقة في حقل علاقة الجمهور العام بالكتاب. فقد ترافقت مع ذلك البرنامج مؤشرات إحصائية عديدة كانت تدلل على أن جمهور البرنامج كان يتخطى دوائر المثقفين والنخب. وفي العديد من المناسبات كانت ردود الفعل والتواصل تأتي من أفراد غير متوقع أن يكونوا من متابعي البرنامج، إن لجهة تحصيلهم الثقافي والعلمي، وإن لجهة توقع اهتماماتهم. لكن المعضلة المهمة، لكن ليست الكبيرة، في هذا الصدد هي أن الإنتاج التلفزيوني مكلف. وفي حالة الإنتاج التلفزيوني الثقافي أو الخاص بالكتاب، فإن اي قناة تلفزيونية لن ترى فيه جدوى اقتصادية ومادة تلفزيونية مغرية للمعلنين. لهذا فإن هذا النوع من البرامج يحتاج إلى وعي مركب عند القائمين على القنوات التلفزيونية، أو دعم وتمويل من جهات مقتنعة بجدوى وأهمية مثل هذه البرامج والضرورة القصوى لأن تكون على شاشات التلفزة.