مصطفى الفقي

أجمع المؤرخون وخبراء الجغرافيا البشرية والمعنيون بدراسة الهوية الوطنية على أن مصر تملك أدواتٍ ناعمة تفتقدها أمم كثيرة وأوطان لم يهبها التاريخ ولم تعطها الجغرافيا ولم يصنع فيها الإنسان ما وهبه الله للكنانة، وأنا أشير هنا صراحةً إلى المؤسسة الدينية المصرية بشقيها الإسلامي، والمسيحي، وأعني بذلك الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، مرّكزًا على دورهما كأداتين فاعلتين في تشكيل الشخصية المصرية المعاصرة في الخارج، وأنا ممن يظنون أن التوظيف الأمثل لهاتين الركيزتين العظيمتين يمكن أن يؤدي إلى عائدٍ إيجابي ضخم للدور المصري الذي يتحدثون أحيانًا عن تراجعه!، وتبدو القيمة الحقيقية للأزهر الشريف والكنيسة القبطية في تأثيرهما الواسع لدى العالم الإسلامي والقارة الإفريقية، وربما كان دافعي في توقيت هذا المقال هو رحيل الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر بما عُرف عنه من وسطية واعتدال وتواضع، وبرغم أنه كان أكثر شيوخ الأزهر إثارة للجدل في العصر الحديث، وبرغم كل ما له وما عليه إلا أنه يبقى في رحاب الله قطبًا إسلاميًا تذكره الأجيال المتعاقبة، كذلك فإن قداسة البابا شنودة الثالث أمد الله في عمره يمثل هو الآخر علامة مضيئة في تاريخ بطاركة الكنيسة القبطية المصرية، كما سوف يذكر التاريخ دائماً بأن الفضل يرجع إليه في بلورة الهوية الوطنية لأقباط مصر عربياً ودولياً فضلاً عن إسهاماته في تعميق الوحدة الوطنية المصرية والتصدي للأزمات الطائفية خصوصاً في العقدين الأخيرين، والآن يكون واجباً علينا أن نفصِّل ما أجملناه في هذه المقدمة من خلال النقاط التالية:

* أولاً: إن دور الأزهر الشريف يمتد لأكثر من ألف عام في خدمة الإسلام والمسلمين والعناية بالشريعة والفقه والحفاوة باللغة العربية والثقافة الإسلامية، فضلاً عن دوره الضخم في الحفاظ على التراث ونشر الدعوة، إنه أزهر الأئمة العظام الذي تخرجت فيه كواكب سوف تبقى في ضمير الأمة الإسلامية إلى يوم الدين، نذكر منهم في القرنين الأخيرين أعلاماً مثل محمد عبده والمراغي وعبد المجيد سليم ومحمود شلتوت وعبد الحليم محمود وغيرهم من قمم علماء العقيدة ودعاة الدين الحنيف، ولم يقتصر دور الأزهر الشريف على ذلك بل امتد ليكون دائماً صوت الشعب المصري في مواجهة الطغاة والبغاة والغزاة، اعتلى منبره الثائر جمال عبدالناصر في مواجهة مؤامرة العدوان الثلاثي الغادر عام ،1956 كما امتد دور الأزهر التنويري إلى السياسة والأدب والفن، فخرجت من عباءته أسماء لامعة في الحياة السياسية والحركة الوطنية وقوافل من المفكرين والمجددين ونخب من الأدباء والفنانين من أمثال المنفلوطي وسلامة حجازي وسيد درويش وصولاً إلى زكريا أحمد وسيد مكاوي . فالأزهر كان دائماً شعلة للاستنارة ومصدرًا للحداثة ومركزاً لصلابة الوحدة الوطنية، بل إن التاريخ الأمني المصري يسجل له أعداداً ضئيلة من خريجيه اختاروا التطرف طريقاً والعنف أداة مقارنة بالجامعات المصرية الأخرى، وذلك يؤكد أن الفهم الصحيح للإسلام وإدراك جوهره العظيم يبعد أصحابه عن فيروس التطرف والغلو والشطط ويدفعهم نحو الاعتدال والوسطية والتسامح .

* ثانياً: إن الأزهر الشريف قد اتخذ مواقف تاريخية معتدلة تجاه المذاهب الإسلامية الصحيحة، ولعب دوراً كبيراً في التقريب بينها من أجل وحدة العالم الإسلامي، ولعل جهود الإمام محمود شلتوت ومن قبله الإمام عبد المجيد سليم في هذا السياق معروفة للجميع، فالفتوى الشهيرة للشيخ شلتوت أجازت التعبد بالمذهب الشيعي (الاثني عشر) ومنذ ذلك الوقت والفقه الجعفري يجرى تدريسه في الأزهر أكبر مركز سني في العالم، كما أن صورة الأزهر الشريف في العالم الإسلامي وخارجه تحظى باحترام شديد ومازلت . أتذكر ما رواه لي أخي الكبير السفير شكري فؤاد ميخائيل مساعد وزير الخارجية الأسبق أنه عندما كان مستشارًا للسفارة المصرية في غانا وجاء موعد صلاة الجمعة طلب منه بعض الغانيين المسلمين أن يؤمهم للصلاة فشرح لهم بصعوبة أنه مسيحي الدين مصري الوطن، ولكنهم كانوا يقولون له إنك من بلد الأزهر الشريف وهذا يكفى! لذلك قام الأزهر بدوره الواسع في تصدير أقطاب الدعوة وملوك تلاوة القرآن وفقهاء الدين الحنيف إلى أقطار الدنيا بغير استثناء، ومازلت أتذكر أصداء زيارة القارئ الراحل عبد الباسط عبد الصمد للهند ومن بعده الشيخ محمد محمود الطبلاوي وكيف احتشد الملايين، من دون مبالغة، لاستماع تلاوة القرآن من الوافد من بلد الأزهر الشريف، ولقد طلبت مني السلطات النمساوية رسمياً عندما كنت سفيرًا لبلادي في فيينا موافقة الأزهر الشريف على إنشاء أكاديمية إسلامية وإشرافه عليها في العاصمة النمساوية على أن تكون نفقات إقامتها واستمرارها مدفوعة من الخزانة النمساوية احتراماً للإسلام وتقديرًا للأزهر، وما زالت تلك الأكاديمية النمساوية التي أعتز بها تمارس دورها في وسط أوروبا بنجاح مطرد، لذلك فإنني أقول صراحةً إن دور الأزهر الشريف بعد 11 سبتمبر 2001 مازال يمثل إحدى الفرص الضائعة أمام تلك القلعة الإسلامية الكبرى لأنني كنت أتصوره وهو يقود مسيرة الاعتدال أمام التطرف، مقدماً الصورة الصحيحة للإسلام بعظمته وتسامحه أمام الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، وأظن أن الإسلام الحنيف قد تعرض لظلم بيِّن في العقود الأخيرة وجرى ربطه افتراءً بالعنف والإرهاب وهو أبعد ما يكون عنهما، بل إنني أؤكد أن ذلك الدور الغائب للأزهر كان يمكن أن يمثل إحدى الممارسات الناجحة للقوة المصرية الناعمة، ويجب أن أعترف هنا أن الدور التركي الذي يحاول أن يرث الدور المصري سياسياً يتطلع أيضاً إلى وراثته بتقديم نموذج إسلامي معتدل يستهوي الغرب ويجذب تأييده .

* ثالثاً: إن الكنيسة القبطية المصرية هي الأخرى قوة وطنية ناعمة تضرب بجذورها في مصر والسودان والحبشة وأريتريا وتتجاوز ذلك إلى كثير من قارات الدنيا، ومازلنا نتذكر دور العلاقات الكنسية في دعم الثقة بين مصر وأثيوبيا والتي اختفت بنهاية حكم الإمبراطور هيلاسيلاسي الذي حضر مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والبابا الزاهد كيرلس السادس وضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقصية بالعباسية، ولا شك أن الانتشار الواسع لعدد الكنائس القبطية في العالم هو تعزيز تلقائي للدور المصري في الخارج، وما زلت أتذكر عند بداية عملي الدبلوماسي في العاصمة البريطانية أنه لم يكن لنا إلا كنيسة قبطية واحدة مستأجرة بعض الوقت في منطقة هلبورن بلندن والآن لنا هناك عشرات الكنائس القبطية، وأتذكر عندما كنت سفيرًا لبلادي في النمسا وبعد أن فرغنا من إنشاء الأكاديمية الإسلامية بجهد من العالم الإسلامي المستنير الدكتور د .محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف وشراكة من الداعية صاحب الشعبية الشيخ د .أحمد عمر هاشم، وبمباركة من الإمام الراحل د .محمد سيد طنطاوي أن طلب مني الإخوة الأقباط في النمسا المساعدة في بناء كنيسة قبطية في العاصمة النمساوية لأنهم كانوا يؤدون شعائرهم في كنيسة صغيرة وقديمة ملحقة بمبنى المقر الثالث للأمم المتحدة وكانت خالية من الخدمات حتى من دورات المياه، فذهبت إلى الخارجية النمساوية وقابلت مدير الشرق الأوسط السيد كرستياني، وأبديت له رغبتنا ثم عرضت عليه شراء إحدى الكنائس الكاثوليكية القديمة المغلقة وتطويرها لكي تصبح كنيسة أرثوذكسية مصرية، ولكن الرجل انزعج من هذا الاقتراح وأشار علي بالذهاب إلى عمدة فيينا لشراء قطعة أرض نقيم عليها كنيسة قبطية مستقلة، وقد فعلت ذلك مع الأخوة الأقباط الذين أذكر منهم الراحل د .سمير أستينو الذي كان محل احترام في الأوساط المصرية والنمساوية، وأذكر أن عمدة فيينا قال لى يومها: يا سعادة السفير هل لي أن أسألك: هل أنت مسيحي الديانة؟ فقلت له إنني مسلم ولكني مسؤول عن المصريين جميعاً بلا تفرقة، وقيام كنيسة للأقباط المصريين هو تعزيز لدور بلادي واحترام لمكانتها، وقد أردت من ذلك أن أؤكد أن دور الكنيسة القبطية في تعزيز العلاقات مع دول العالم هو أمر يجب أن نهتم به وأن نحرص عليه، خصوصًا مع دول شرق إفريقيا وحوض النيل، بل إن المصريين في الخارج مسلمين وأقباطاً يمكن أن يكونوا رصيداً مؤثراً في دعم القوى الناعمة المصرية وهم كذلك في أغلب الأحيان بمن فيهم من نطلق عليهم خطأ صفة أقباط المهجر، وهم في ظني مصريون وطنيون، ولكننا لم نتمكن من احتوائهم جميعاً في حضن الوطن الدافئ بدلاً من تركهم فريسة للشائعات والمبالغات والأخبار المغلوطة، وأنا أتصورهم في المستقبل جزءًا من جماعات الضغط المصرية التي تعمل من أجل الوطن كله وليس الكنيسة وحدها .

. . تلك هي مصر الدين والوطن، الأرض والشعب، التاريخ والجغرافيا، الحضارة والثقافة، القوات المسلحة الباسلة والقوة الناعمة أيضاً .