يحيى الأمير

على امتداد العام الخامس والعشرين، وهو عمر جيل من السعوديين ممن بلغت أعمارهم هذه الأعوام، تشكل الجنادرية بالنسبة لهم جزءا من الثوابت الثقافية في الحياة السعودية، ولم تعد الجنادرية في الذهنية المحلية والعربية تعني اسم مكان بقدر ما باتت علامة على مهرجان ثقافي وحضاري واسع ومؤثر.
بالإضافة إلى القرية الشعبية وزوارها الذين يتجاوزون مئات الآلاف كل عام، فإن للجنادرية قيمة أكثر ترسيخا وأهم دورا، وهي قيمة مرتبطة بالقيم الوطنية العليا، فالجنادرية في واقع الأمر هي الفعالية التي تنطلق من القيم الحقيقية لهذا الكيان وهي قيم التنوع والتعدد والاختلاف التي تمثل أبرز جوانب الثراء في الثقافة السعودية، والتي ضمتها الوحدة الوطنية المباركة لتمثل تجربة عصرية لدولة حديثة تقوم وهي تضم في جنباتها كل مظاهر وشروط الدولة الحديثة، لتصبح الشخصية السعودية مزيجا متنوعا من كل تلك الأوجه من الثراء الحضاري والإنساني، وما يحدث في الجنادرية هو طرح للتنوع من الجوانب العامة للحياة في الفنون الشعبية الغنائية والراقصة وفي فنون الزي والعادات والتفاصيل اليومية للحياة.
التنوع الهائل الذي تشعر به وأن تتنقل بين أجنحة القرية التراثية في الجنادرية، يمنحك شعورا أنك أمام كيان وتنوع لم يكن ليجد طريقه للحياة والنهوض إلا من خلال وحدة وطنية تنطلق من القيمة العليا المشتركة للجميع وهي البحث عن الحياة الكريمة عن طريق كيان وطني تنضوي تحته كل تلك التنوعات وتتحول إلى غنى وثراء ونماء مستمر.
يمثل أوبريت الجنادرية الصورة النصية والفنية لذلك الواقع، من خلال تصويره لواقعه وتصويره للطموح والمأمول لذلك الواقع، والأوبريت الأخير الذي كتب كلماته ساري لم يتوقف عند ذلك الدور ولم يقدم رؤيته كفعالية لافتتاح المهرجان وإنما كانت الرسائل الواعية والكثيفة التي حملها نص الأوبريت هي رؤية السعوديين لكثير مما قد يشاهدونه من مواقف تمثل قيمهم الوطنية.
حين حمل الأوبريت عنوان: وحدة الوطن، لم يكن ذلك مجرد تسمية له، بل كان نية النص وروحه وتطلعه هي التي تجسدت في مختلف المقاطع، من إيمان بالوحدة كقيمة عليا هي الأس البنائي للوطن، ومن ثم يتجه النص إلى قطع الطريق وبكل هدوء على من يعيشون صدمة التنمية وتطلعات الحياة، السعوديين، ويجدون فيها جرحا لتقليديتهم فيلجؤون لمناهضتها عبر ادعاءات لا مكان لها في الثقافة السعودية الملتزمة.
كانت الروح الفنية لنص الأوبريت تعيش انسجاما واضحا ومتميزا مع الروح المعنوية له، فلم يكن الرد على من قد يتهجم بالتكفير على مواطن أو مسؤول، هو جواب يسير وكثيف في آن معا: قولنا قول الرسول.. والسند كله عدول.. هل شققت قلوبنا. فيما حملت لوحة المرأة السعودية اللغة التي تمثل حقيقة الموقف الاجتماعي السعودي الحقيقي من المرأة قبل أن يطاله أي تزييف.
المحاور الثقافية التي تطرحها جنادرية هذا العام، تشير إلى أن خمسة وعشرين عاما قد جعلت من الجنادرية كائنا ثقافيا واعيا، وملتقى حقيقيا للقضايا والأفكار والمحاور التي تمثل تطلعات ثقافية لم تعد تتوقف عند حدود المكان ولا الجغرافيا، فالمحاور الثقافية المطروحة لهذا العام إعلان عودة حقيقية للتأثير والقيمة المأمولة للأداء الثقافي في الجنادرية، فالبحث في القيم الإنسانية المشتركة كأساس لتعايش الشعوب وحوار الثقافات، إضافة إلى البحث في معوقات الحوار بين الحضارات والشعوب، وهذه الأفكار، ليست مجرد محاور لمحاضرة أو أخرى فقط، ولكنها تعكس الرسالة السامية للإنسان السعودي التي حملها خادم الحرمين الشريفين للعالم حوارا وتعايشا وسلاما، وحرصا على تفعيل القيم العليا للبشرية والتي جاءت الأديان للحث عليها وتفعيلها، وهو ما يتوجه المحور الشقيق له في ذات الفعالية والذي تناول رؤية خادم الحرمين الشريفين للحوار والسلام وقبول الآخر.
وجود الثقافة الفرنسية كضيف شرف للمهرجان، يمكن أن يمثل بداية حقيقية لتحويل تلك الأفكار عن التعايش إلى فعالية واقعية.
إن الملامح المتجددة التي حملها المهرجان هذا العام، وإذا ما استطاع الحفاظ عليها وتنميتها فسوف تجعل من المهرجان الصورة السعودية المثلى التي نحرص أن يطلع عليها العالم ويتفاعل معها.