مصطفى الفقي

ونحن في مستهل عهدٍ جديد للأزهر الشريف بوصول فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب إلى هذا المنصب الديني الرفيع القريب من قلوب المسلمين في أنحاء المعمورة والذي يعبِّر عن أكبر مركز سنيٍ في العالم فإنني أتطلع إليه - وهو صديق عزيز وأخ كريم - برسالة مفتوحة في هذه الفترة الحرجة التي يواجه فيها الإسلام موجات العنف والإرهاب وحملات الإساءة والتشويه، ولا بد أن أسجل بداية دعاءنا للإمام الراحل بأن ينزل عليه الله سبحانه وتعالى شآبيب الرحمة وسوابغ الفضل وأن ينزله في رحاب الصالحين لتواضعه وتسامحه وبساطته، ونتمنى للإمام الجديد أن يكون وصوله إلى كرسي مشيخة الأزهر فاتحة خير على هذه المؤسسة الدينية الكبرى وعلى الأمتين العربية والإسلامية وخصوصاً أن الإمام الجديد قد عاش في الغرب فترة واطلع على وجهات النظر الأخرى ما يؤكد سعة أفقه وتنوع مصادر المعرفة لديه، فضلاً عن أنه إمام صوفي ينتمي إلى بيت علمٍ ودين من صعيد مصر الذي قدم لنا الأئمة العظام من أمثال المراغي وعبدالرازق وطنطاوي وغيرهم، وأنا أتذكر معه بهذه المناسبة الإمام المتصوف الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق الذي لا يزال مذكوراً بشجاعة الرأي والزهد في المنصب لدى عارفيه ومريديه، ولعلي أتقدم الآن بالملاحظات التالية:

* أولاً: إن مقام شيخ الأزهر يجب الفصل فيه بين المنصب والإمام، فلهذا المنصب الكبير مكانته وقيمته التي تحتاج إلى شموخ الأزهر وتواضع الإسلام من دون إفراطٍ أو تفريط مع بساطة العالم الجليل من دون استغراق فيها فقد يكون للإمام خصائصه الذاتية وصفاته الشخصية لكنه حين يتولى موقع ldquo;الإمام الأكبرrdquo; فإن عليه أن يتصرف بمقتضيات المنصب وأن يضع دائماً قيمة الإسلام الكبيرة ومكانة الأزهر الرفيعة نصب عينيه لأن التفريط في ذلك ليس من حقه حتى لو كان بدعوى التواضع والبساطة والإقبال على الغير! وهذه ملاحظةٌ لا تخفى على فطنة ldquo;الإمام الأكبرrdquo; بخبرته الواسعة وشخصيته المتميزة .

* ثانياً: أظن وليس كل الظن إثماً أن الأزهر الشريف الذي خدم الدين واللغة وحفظ الشريعة والفقه وحمى الثقافة والتراث ونشر الدعوة وأقام الشعائر لأكثر من ألف عام بحاجة إلى إصلاحٍ حقيقي وتجديد عصري يتواكب مع عالم مختلف ودنيا يتطور كل ما فيها بشكل مذهل، خصوصاً في عصر ظهرت فيه أطروحات جديدة مثل ldquo;العولمةrdquo; وما يطلقون عليه ldquo;صراع الحضاراتrdquo; وما يسمى بrdquo;الحرب على الإرهابrdquo;، وليس ما نطالب به جديداً على ldquo;أزهر الإمام محمد عبدهrdquo; وغيره من أئمة الإصلاح ودعاة التجديد .

* ثالثاً: لقد انفرد الأزهر بساحة الدعوة لعدة قرون، وكان دوره هو الوحيد الذي تهفو إليه قلوب طلاب العلم من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبفضل جهوده انتشرت المراكز الإسلامية في عدد من الدول الغربية، وكانت مصر هي التي وقفت وراء إنشائها وأرسلت مبعوثيها أئمة فيها، لذلك كانت مكانة ldquo;مصر الأزهرrdquo; دائماً مبعث احترام العالم الإسلامي كله .

* رابعاً: إن علاقة الأزهر بالسياسة تمثل مصدر حساسية أحياناً، فانخراط الأزهر في المواقف الوطنية أمر يحسب له لكن الدفع به في اتجاهات سياسية معينة يؤدي إلى شحوب صورته وتراجع مكانته، لأن استقلالية الأزهر هي جوهر شموخه التاريخي ومصدر تقديره في العالمين العربي والإسلامي .

* خامساً: إن ما يصدر عن الأزهر يشكل صورته في العالم الإسلامي وخارجه، لذلك فإنني أتمنى على الإمام الأكبر أن يختار واحداً من تلاميذه الثقات ليكون متحدثاً رسمياً باسم الأزهر الشريف بحيث لا يتحدث الإمام الأكبر إلا في القضايا الكبرى والأمور الجلل، خصوصاً أن أجهزة الإعلام في عصرنا أصبحت مغرمة بوضع الكلام في الأفواه واجتزاء الحقيقة والاختيار التحكمي لعباراتٍ من دون غيرها، ولقد عانى إمامنا الراحل من ذلك لتلقائيته وحسن نيته وسلامة مقصده .

* سادساً: إن العلاقة بين الأزهر الشريف والكنيسة القبطية كانت نموذجاً رائعاً لتماسك المسلمين والمسيحيين في الوطن الواحد، ولقد أسهم إمامنا الراحل بسماحته ونقائه إسهاماً كبيراً في ذلك مع أخيه في الوطن قداسة البابا شنودة الثالث أمد الله في عمره، ولا يخفى على الأزهر والكنيسة معاً أن مصر دولة مدنية تحترم مقدساتها وتعزز دور الدين في المجتمع، لكنها لا تتحمس لدور الدين في السياسة، فالمواطنة هي المبدأ الوحيد الذي يعتبر ركيزة الوطن المصري الذي نعتز به ونظام الحكم الذي نسعى إليه .

* سابعاً : إن دور الأزهر الشريف في الحركة الوطنية المصرية وفي القضية الفلسطينية والصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; معروف للجميع، ومواقف الأزهر في ذلك ثابتة وراسخة، لكن هناك من يتصيدون المواقف ويختلقون الأحداث في محاولة للتقليل من شأن الأزهر وتشويه صورة إمامه الأكبر وأنا ممن يظنون أن من حق الأزهر الشريف أن يستقبل أهل الكتاب بلا تفرقة وأن يحاورهم بلا حساسية على ألا يتورط في مواقف سياسية لا تعبر عن الشارع الإسلامي أو الضمير الوطني .

* ثامناً: أتمنى على الإمام الأكبر أن يفتح باب ldquo;البعثاتrdquo; الأزهرية إلى الخارج، وأن يدفع أيضاً بحركة ldquo;الابتعاثrdquo; للدراسة في الجامعات الأجنبية أمام شباب الأزهر لأن ذلك التواصل الحضاري والتعامل مع الآخر والاحتكاك بالغير هو الذي قدم لنا أمثال الإمام محمد عبده والدكتور محمد البهي والدكتور محمود زقزوق والإمام عبدالحليم محمود والإمام أحمد الطيب، ولعلي أقول هامساً إن عزلة الأزهر تؤرقني أحياناً كما أن ضعف إلمام الدعاة باللغات الأجنبية الحية هو تكريس لتلك العزلة وانتقاص من دور الأزهر الشريف .

* تاسعاً: لا أتصور الإمام الأكبر مستغرقاً في الشؤون المالية والإدارية للأزهر صارفاً جل وقته في مشكلات بعض المعاهد الأزهرية رغم أهمية ذلك، بل أطالب بأن يكون لفضيلته مساعدون يحملون عنه هذه الأعباء حتى يتفرغ الإمام الجليل للقضايا الإسلامية الكبرى والمسائل الدينية المهمة، فهو رمزٌ قبل أن يكون وظيفة وصاحب دور قبل أن يكون شاغل منصب .

* عاشراً: أعود مرة أخرى إلى أهمية استقلالية الأزهر ووضوح توجهاته وحرصه على أن تكون رسالته إلى العالم كله هي رسالة الوسطية والسماحة والاعتدال، لأن تلك هي في الحقيقة جوهر الدعوة المحمدية وركائز الديانة الإسلامية، والقائل بغير ذلك مغالط أو مخالف أولا يدرك فلسفة الإسلام الحنيف الذي جاء إلى الناس كافة، وقال الله في كتابه الكريم: ldquo;يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكمrdquo;، تلك هي رسالتي المفتوحة إلى الإمام الأكبر مؤكداً لفضيلته استبشار المسلمين بإمامته واحترامهم لعمامته وتقديرهم لعلمه وزهده، وأنا ممن يظنون أن وصول صوفي إلى مقعد المشيخة هو فألٌ حسن وبركةٌ للإسلام والمسلمين لأن الحركة الصوفية بطبيعتها هي نقيضٌ للتعصب ومصدر للسماحة وحبٌ لله ومخلوقاته بلا تفرقة أو استثناء، كما أن تجربة الشيخ الجليل في الإفتاء ورئاسة جامعة الأزهر سوف تكون عوناً له في قيادة أكبر مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، ولا يخفى على شيخنا الجليل أن هناك تيارات متطرفة أو متشددة قد وفدت على ديننا الحنيف تسعى لتشويه صورته أو احتكار دعوته ويبقى الأزهر هو القلعة المنيعة والحصن المكين لتقديم صحيح الإسلام ونشر الدعوة السمحة، وإذا كنا نتذكر الإمام الراحل بوجهه السمح وتواصله مع الغير وتعبيره عن جوهر الإسلام المعتدل فإننا نتذكره دائماً وديعة عند ربه جاءت نهايته تكريماً واضحاً لمسيرة حياته وتتويجاً لجهوده وقد كان رحمه الله بشراً بما له وما عليه، أما الإمام الأكبر الجديد فإن معرفتنا به تؤكد احترامنا له وأملنا فيه وتوقعاتنا منه وتعويلنا عليه في استعادة مصر لدورها الإسلامي الكبير بابتعاث خريجي أزهرها الشريف إلى جامعات العالم، وانتشار البعثات الأزهرية إلى حيث يوجد المسلمون، من أجل نشر الدعوة وتصحيح الصورة وتأكيد دور الأزهر الجامع والجامعة، المكان والمكانة، الحاضر والمستقبل .