عدنان حسين

منذ تعيينه في منصبه قبل ست سنوات، ظل إقناع الحكومات العربية بالاعتراف بالنظام الجديد في العراق والانفتاح عليه وتوسيع الوجود العربي في بغداد، من أكبر الهموم لوزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري، وربما أكبر مشاغله على الإطلاق. فما من مرة التقيته، خلال هذه السنوات، إلا وكان يحدثني عن معاناته على هذا الصعيد، ويحكي لي عن بعض المواقف الصعبة التي مرّ بها في سبيل فتح ثغرات في الجدار الذي بناه العرب من الحجر الصوان.
كانت لدى زيباري فكرة واضحة ومنطقية: إذا لم توجدوا في بغداد، فإن الفراغ سيملؤه غيركم.. هكذا كان يقول لنظرائه وزراء الخارجية، ولغيرهم من كبار المسؤولين العرب الذين يقابلهم.
ما كان ذلك تكتيكا، أو مخادعة دبلوماسية من زيباري لتخويف المسؤولين العرب من دون أساس، وانما كان ينطلق من واقع ما يحدث في بلاده.. فبالفعل، بينما كان العرب يغيبون ويستمتعون بغيابهم، كان الإيرانيون يوطّدون وجودهم ونفوذهم، بل هيمنتهم، في بغداد وسائر أرجاء العراق، ويستمتعون بهذا النفوذ ويفيدون منه سياسيا واقتصاديا. فبين ليلة وضحاها غدوا القوة الأكثر تأثيرا في أوضاع العراق بعد الولايات المتحدة، بل إن إيران باتت أكثر تأثيرا من الولايات المتحدة مذ بدأت واشنطن تنفيذ اتفاقية سحب القوات.
وتركيا هي الأخرى أضحى لها دور غير مسبوق في الأوضاع العراقية لا يعادله دور العرب بأجمعهم. وهي استفادت كثيرا سياسيا واقتصاديا، ونجحت في ان يكون لها مخالب، ليس بين بعض الطورانيين التركمان فقط، وإنما أيضا من الشوفينيين العرب في الموصل وكركوك.. وبغداد ايضا. فهؤلاء أظهروا ما يكفي من المواقف والإشارات على أنهم على أتم الاستعدا لبيع الوطن الى الأتراك حتى لا يأخذ الكرد حقوقهم التي يعتبرون أنها تنتقص من وحدة العراق!!
الاقتصاد -عادة- هو مرآة للنفوذ السياسي، والأرقام التي أعلنت منذ أسابيع عن حجم التجارة بين العراق وكل من ايران وتركيا تعكس نفوذهما القوي. فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وايران خلال العام الماضي 7 مليارات دولار، وحجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا 9 مليارات دولار، وتبلغ قيمة استثمارات الشركات التركية في العراق الآن 8 مليارات دولار. وكل قيمة التجارة العربية مع العراق لا تصل الى أي من هذه الأرقام.. فالتبادل التجاري بين العراق وسورية مثلا، لا يزيد عن 800 مليون دولار سنويا.
بعد سنوات، شقي فيها العراقيون كثيرا، تعدّل موقف العرب.. وكثير من شقاء العراقيين كان، إما بسبب الغياب العربي الذي نتحدث عنه هنا، أو بسبب الحضور العربي السلبي بالواسطة.. فبينما اكتفى بعض العرب بالغياب عن العراق، حضر آخرون بقوة من خلال تمويل الجماعات الارهابية وتسليحها وتسهيل عبورها الى العراق لتفجير المدارس والمستشفيات والأسواق والمساجد والكنائس والمؤسسات الحكومية وقوات الجيش والشرطة والمتطوعين وتجمعات العمال على ارصفة الشوارع.. بحجة مقاومة الاحتلال!!
الآن يتجه الموقف العربي الى التغيّر بدرجة كبيرة، بخاصة بعد الانفتاح السعودي الذي، وإن جاء متأخرا، فإنه سيكون له الدور المؤثر في اعادة التوازن الى المعادلة العراقية المختلّة.
بطبيعة الحال، لن تكون ايران سعيدة بهذا التطور، ولا تركيا ايضا. وعلينا أن نتوقع الكثير من الأعمال التي تهدف الى عرقلة الحضور العربي الكامل في بغداد. ولا بد من وعي عربي لهذا.. فإذا كان العرب غيارى حقا على وحدة العراق وسيادته وأمنه واستقراره ومصير شعبه المتعدد الأعراق والديانات والمذاهب، فإن عليهم عدم إدارة الظهر.. بل الحضور القوي في العراق والدفاع عن هذا الحضور في وجه الزحف الايراني - التركي المشتد والمتسارع، خصوصا ان انسحاب القوات الاميركية الوشيك سيخلق فراغا كبيرا في ظل التنازع على السلطة بين السياسيين العراقيين.. هذا الفراغ سينتظر من يسارع الى شغله.. الإيرانيون والأتراك تجهزوا له جدا، والأمل أن يفعل العرب كذلك.