خالص جلبي

في الغرب تأزم الفكر واختنق، وضربت الكنيسة بستار من الخديعة والكذب والتظاهر بالتقوى حتى انفلق، فولدت الإباحية من فوهات التشدد، والإلحاد من بطن التعصب، فهذا سنة كونية، من آليات الارتداد المرضية.
والثقافة العربية لاتخرج عن هذا القانون.
ولعل الكاتب (عبد الله القصيمي) يمثل أفضل تعبير، وأعظم تدمير بنفس الوقت، كما جاء في عنوان (الرسائل المتفجرة) في كتاب ضم مراسلات بينه وبين قدري القلعجي.
فالرجل لم يعد عنده مقدس، وطلق الثقافة المحلية بكل إحداثياتها وغيبياتها ومفاهيمها طلاقا ثلاثا لارجعة فيها، فعمرها قصير، وعيشها حقير، ومحتواها هزيل مشكوك فيه، من شيعة وسنة، وسلفية وخلفية، وفقهية وحديثية، وقرآن وحديث، ورب وكعبة، فالعرب لاشيء، وتاريخنا كذب، وحكاياتنا مزورة، وعباداتنا باطلة.
بهذه الحدة، وبهذه القسوة المفرطة، وبهذه الثنائية الجنونية، وبهذا العنف الذي مابعده عنف، بدون أن يقف عند حاجز وسور؛ ينطلق مثل تسونامي ثقافي بدون شواطىء.
وهي ظاهرة مدمرة، خطيرة مزلزلة، مثل الصواعق والحوارق والطوفانات، إذا لم تنظم وتدفع عبر الأقنية والمسارات قتلت نفسها ومن حولها، ولذا فالرجل هرب هائما على وجهه، وترك بلده، وودع ثقافته بعد أن كفر بها ثلاثا، وفي النهاية كان يقول لمن يزوره على خوف من الرصد والرصيد والمخابرات والتقارير السرية؛ تسألني كيف أعيش؟ نحن ثلاثة؛ الله والمرض وأنا؟ فهذا هو القصيمي باختصار..
إذا كان التشدد وفرط التستر والتكتم والتغطية أخت التعرية قد أناخ بكلكله على أوروبا دهرا، فقد ولدت حركة الاستربتيز (التعري المتدرج للنساء على ظهر المسرح عيانا أمام الرجال) في نفس الأرض، حيث ولدت البيورتيانية التقية، والتشدد الديني.
والعالم العربي لايخرج عن هذا القانون الإنساني؟
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق..
وفي القرآن فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا..
فالفرط أخو التفريط، والتشدد صنو الإباحة، والحواف الحدية لاتختلف عن بعضها كثيرا.
وصدق مالك بن نبي الكاتب الجزائري، حين اعتبر أن التشدد في كشف جسد المرأة والتعري دافعه جنسي وهو واضح، ولكن التشدد في التستر والتغطية والتعمية ينطلق من نفس الدافع الجنسي، في الاستيلاء على جسد المرأة الأنثى.
والشكل الأول كما يقول مالك بن نبي ظاهر واضح ندينه ونهاجمه، أما الثاني فنقع في فخه وشراكه، لأنه عين التقوى وروح التدين، ولا ندري أن الدوافع الخفية العميقة التي تحرك مثل هذا السلوك هي نفس المشاعر الجنسية من التمتع بالجسد..
والقصيمي عاش ظروفا من هذا النوع وتمرد فكان الانفجار العظيم.
وفي كلماتي القليلة هذه أنبه إلى مخاطر من هذا النوع من الإرهاب الخفي، لونه فكري وليس عسكريا، مسوحه التدين، ومعدنه شهواني..
ويجب توقع حدوث الارتكاس والارتداد المرعب المتناسب مع عظم الانحراف وقوة الهجوم، وهنا ليس على أساس قانون نيوتن الثالث في الميكانيكا، فتحكمه قوة الارتداد المتناسبة مع قوة الاندفاع الأولي، بل كما يقول توينبي المؤرخ أن ما يحكم على حركات المجتمع التاريخية قوانين نوعية مختلفة، أي أن الارتداد في مثل هذه الحالة يكون أعظم بكثير من قوة الهجوم والتوتر الأولية.
كان أول تعرفي على كتابات القصيمي عن طريق جودت سعيد صياد الكتب والأفكار، فقرأ علي صفحات عجيبة مما جرى بها قلمه، مما ذكرني بالبحتري أهو صنع أنس لجن أم صنع جن لأنس؟
كلمات متفجرة.. كفر بكل شيء من الإنسان والتراب والمقدس والتاريخ والأفكار والأوضاع.. وبالطبع فإن كتبا من هذا النوع تتسرب وتنتشر بأشد من نيران الغابات الجافة في الصيف القائظ، وهكذا فكتب الرجل وكلماته موجودة أكثر مما يتصور القارىء وفي كل بيت يعني بالثقافة وتطور الفكر في المنطقة..
لقد اطلعت على العديد من المدارس الهادئة والمتفجرة والمنحرفة ـ بظني ـ والتي تزعم أنها أمسكت بمفتاح التاريخ والحقيقة غير القابلة للنقاش، وآخر عهدي كان بمدرسة عجائبية، تزعم إنها أمسكت بمفتاح فهم كل النصوص، وما تحوي من ظلال ومفاهيم، بشيء سمته مربع المصالح ومكعب المنافع، بكلمات مثل فك أحجية الكلمات المتقاطعة في الجرائد (تعاون ـ عزلة ـ توحيد ـ صراع ـ جزئي كلي) فتضيع أكثر مما تهتدي، وتجهل أكثر مما تفهم. ومما زعمت هذه المدرسة أنها صعقت منطق الجوهر عند أرسطو، ونسفت مقولاته العشرـ وهي أمتع ما في فلسفته في تحديد الوجود ـ ووصلت إلى فهم الكون المتشكل المتبدل دوما (وهو ليس جديدا؟ راجع مفهوم الصيرورة عند هراقليطس) لتصل إلى تغير كل شيء بما بما فيها المقدس (افهم؟) لتنشأ عقيدة موازية ضبابية ستزول تحت نفس القانون. أليس كذلك؟
أما مدرسة الشحرور الشامي؛ فقد سبقت الجميع في لعبة اللغة (كما يقول فيتجنشتاين الفيلسوف النمساوي) وهو يمسك بمفتاح النصوص، ويقول السر هنا مثل كهف علي بابا والأربعين حرامي.
وبقدرة قادر نكتشف أن معنى ولايضربن بأرجلهن تعني الستربتيز.
وأن ابن نوح لم يكن ابن نوح (افهم)، لأن الولد غير الابن، وأن قسما ممن ركب مع نوح كانوا قوما كافرين. وبهذه الطريقة ينسف كل المعنى القرآني بآيات من القرآن، بطريقة تفجيرية جدا... فهو يحمل الكافرين في الوقت الذي يدعو تبارا أن لايترك على ظهرها كافرا فجارا!! (راجع الكتاب والقرآن ص 683)
فهذا هو وضع الفكر العربي الحالي المتأزم، والقصيمي نموذج حاد النكهة جدا مثل الكاري الهندي.
فكر القصيمي إذن هو من ذلك النوع المتفجر، الذي يجب أن يفجر مثل الديناميت، بشكل مدروس، في مكان مدروس، لغرض مدروس، في وقت مدروس لأناس يدرسون، مثل دراسة الديناميت في مختبرات الطاقة، أو دراسة فيروسات الأيبولا والسارز في محميات بيولوجية من الرتبة الرابعة، ( Safe- Level 4) في الدخول على معامل المختبرات الخطيرة.
قد يعجب كلامي البعض، وقد يعتبر البعض أن القصيمي فيلسوف القرن، وقد يراه آخرون أنه هرطيق القرن، ولكن الرجل هو خلطة من هذا وذاك، وقد مات وأفضى إلى ربه فبصره اليوم حديد.
إن فهم القصيمي يجب أن تتم في مختبرات علم النفس، فيدرس تحت مجهر السيكولوجيا، وحين ينمو الفطر والنباتات في بيئة صخرية، يجب توقع أن يكون رد فعلها من نوع الصخري الحجر الصوان الصلد.
ومعادن الناس وصفها نبي الرحمة، أنها مثل الذهب والفضة، والعبرة بالنتائج؛ فكثير من الأفكار المتفجرة، فجرت المجتمعات المتصلبة المحنطة فأذابتها لما هو خير.
وكثير من الثورات العارمة قادت للمصائب، وجماعتنا في الشرق الأوسط بدأوا الانقلابات العسكرية بدعوى الحرية والوحدة؛ فقلبوا الجمهوريات إلى جملوكيات، والدولة إلى دويلات مخابرات، وهي ليست نكتة، بل واقع يتلبس العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه مثل الشيطان الرجيم، وسيدوم هذا الأمر عقودا طويلة على ما يبدو، وسيأتي من يكتب التاريخ عن نشأة كائنات الهيبريد (يجرب العلماء مزج جينات الفيران مع البغال لإنتاج كائنات جديدة)..
إن قانون التاريخ يصنعه التاريخ، ولا نصنعه نحن، بل هو من يصنعنا..
إنها مأساة التاريخ ومهزلته كما يقول الوردي عالم الاجتماع العراقي في كتاب كامل بعنوان (مهزلة العقل البشري)، فلنضحك طويلا على خرافات القصيمي، وعلى خرافاتنا، فالضحك جيد...