أليكس بيري


بين السهول القاحلة والهضاب الصخرية الجرداء على الحدود الجنوبية للصحراء الكبرى، تقع مدينة جوبا التي تتكون من أكواخ طينية مسقوفة بأكياس بلاستيك تعتليها طيور الصقر في أوقات الظهيرة، ومن أطفال يغتسلون في المياه الموحلة لنهر النيل الأبيض. كما تتكون هذه المدينة، التي لا يوجد فيها أية خطوط هاتفية، أو وسائل نقل عام، أو شبكات كهرباء، أو صناعة، أو زراعة، من بعض المباني، التي هي عبارة عن فنادق ومستودعات لتخزين المساعدات، إلى جانب بعض الكبائن مسبقة الصنع، وحاويات الشحن التي تُستخدم كمبانٍ لبعض الوزارات الحكومية. وتوجد فيها أيضاً بعض الشركات، إلى جانب مستشفى متهالك وحفنة من المدارس.

وبسبب وصول المزيد من عمال الإغاثة، فإننا نشاهد أحياناً في شوارعها المعبَّدة (البالغ عددها خمسة) بعض الازدحامات المرورية لسيارات الجيب البيضاء، كما يوجد فيها بعض البارات التي يؤمُّها الوافدون حصراً. لكن كل هذه الأمور لا تُعتبر مؤشراً عن الواقع الجديد الذي بدأ يلقي بظلاله على هذا المكان؛ ففي غضون 10 أشهر من الآن- هذا بالطبع إذا لم تتدخل الحرب والمجاعة والإبادة الجماعية للحؤول دون ذلك- ستصبح مدينة الأكواخ هذه، التي تشتهر بالحرارة العالية والملاريا، أحدث عاصمة لأحدث دولة في العالم: جنوب السودان.

كيف يمكن لجنوب السودان أن يصبح دولة مستقلة في الوقت الذي لا يمتلك من مقومات الدول سوى القليل؟ الكثير من عمال الإغاثة وخبراء التنمية في مدينة جوبا يشكِّكون في إمكانية حدوث هذا الأمر، بل ابتكروا اصطلاح laquo;دولة دون الفاشلةraquo; لوصف الوضع الفريد من نوعه لجنوب السودان. ومع أن المجتمع الدولي يحاول أن يظهر بمظهر المتفائل، لكن يبدو أن التفاؤل صعبٌ جداً في هذه المرحلة، وبخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار بأن المدة الزمنية المتاحة للتحضير للانفصال

قصيرة جداً.

التوقعات تشير إلى أن الجنوبيين سيصوِّتون بشكلٍ كاسح لمصلحة تقسيم أكبر دولة أفريقية، خلال الاستفتاء الذي سيتم في 9 يناير المقبل، إلا أن بعض المراقبين، مثل الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي يتولى المركز التابع له دعم الصحة والترويج للديمقراطية في السودان، يقولون إن الإقليم غير مستعد لمثل هذا الأمر في الوقت الحالي.

أي ولادة في غير أوانها مرشحة لمواجهة بعض المضاعفات. لكن في حالة جنوب السودان ستكون هذه المضاعفات شديدة الخطورة، بخاصة أن السودان يُصنَّف كواحد من أقل البلدان استقراراً في العالم. فهذا البلد هو المكان الذي عاش فيه أسامة بن لادن لمدة خمس سنوات في التسعينيات، وهو الذي أصبح رئيسه أول رئيس دولة في العالم توجِّه له المحكمة الجنائية الدولية تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية، كما أنه المكان الذي قُتل فيه مليونا شخص خلال حربين أهليتين بين الجنوب وحكومة الشمال، الأولى بين 1955و1972 والثانية بين 1983و2005.

لذلك، فإن ولادة دولة جديدة في الجنوب، في ظل عدم وجود حدود واضحة بينه وبين الشمال، إلى جانب معاناته من ضعف المؤسسات والانقسامات الداخلية، قد يكون كارثياً. ويقول ديفيد غريسلي، المنسِّق الإقليمي للأمم المتحدة في جنوب السودان، laquo;إن أمراً كهذا من شأنه أن يعيد خلق أجواء الحرب الأهليةraquo;.

هذا على مستوى الجنوب فقط. لكن الانفصال في هذا المكان قد يشجع السودانيين الآخرين الذين توجد لديهم نزعات استقلالية، كأولئك الموجودين في دارفور، أو في الشرق، أو في الولايات الجنوبية والوسطى في جنوب كوردوفان، والنيل الأزرق، على اتباع النهج ذاته. لكن كارتر استبعد إمكانية تكرار الأنموذج اليوغوسلافي؛ أما سكوت غريشن، المبعوث الأميركي الخاص للسودان، فقال: laquo;لن يكون التقسيم نتيجة حتمية؛ وفي رأيي نستطيع منع حدوث ذلكraquo;.

إذن، لماذا يتجشم جنوب السودان عناء محاولة الانفصال عندما يكون ثمن الفشل الحرب، وثمن النجاح تفتت السودان؟ ولماذا يساعده العالم على ذلك؟ وهل هناك أي أمل في أن يتمكن جنوب السودان من الوقوف على قدميه بعد الانفصال؟

رداً عن هذه الأسئلة، يقول كارتر: laquo;لا أستطيع القول إن الولايات المتحدة كانت مهيأة للاستقلال عندما نالت استقلالهاraquo;. أما غريسلي فيقول: إنه ليس من الضرورة أن يكون جنوب السودان دولة مكتملة بكل معنى الكلمة في بادئ الأمر، بخاصة في حال استمرت الجهود الدولية لبنائه، والتي يتوقع أن تستمر بين 10 و20 عاماً.

وعلى الرغم من تلكؤ البنك الدولي في تقديم الدعم، ثمة تقدم ملموس على الأرض. صحيحٌ أن جوبا لا تتميز بالكثير من المقوِّمات، لكن الذين يعرفون كيف كانت هذه المدينة في الماضي، يدركون حجم التقدم الذي حققته. البعض يشير إلى النجاح الذي حققه برنامج مركز كارتر في مكافحته لدودة غينيا القاتلة، التي كانت تنتقل لأبناء الجنوب عبر المياه، ثم يستشهد بمقولة كارتر نفسه: laquo;إن ذلك النجاح ممكنraquo;.

لا يمكن لأي برنامج صحي، مهما كان ناجحاً، أن يكون أساساً لإنشاء دولة. لكن بغض النظر عن حجم التشاؤم الكامن في استقلال جنوب السودان، فإنه من الصعب تخيل أي بديل آخر. الحرب هي التي مزَّقت الجنوب، وحرمانه من استقلاله، ولاسيما في هذه المرحلة المتأخرة، سوف يعني المزيد من الاقتتال. يُذكر أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، خلال إعلانه عن استراتيجيته الجديدة، بخصوص السودان، قال: laquo;لن يكون الأمر سهلاً، ولا توجد إجابات بسيطة على التحديات الاستثنائية التي تواجه هذا الجزء من العالمraquo;. كانت الحرب تمثل إجابة الحكومة السودانية على الكثير من التحديات التي تواجهها؛ لكن تزايد تعقيد الأوضاع قد يكون مبرِّراً للأمل.

إعداد - مالك عسّاف

عن مجلة laquo;تايمraquo; الأميركية